في كل عام، تقيم مديرية الثقافة بالرقة، مسابقة للشعر باسم مسابقة «ربيعة الرقي».. إيماناً منها بأهمية ومكانة هذا الشاعر الذي لم ينل حقه، ولعلنا في هذه الأسطر نضيء شمعة بعد المسابقة، وبعد كتاب الدكتور«علي شواخ اسحاق – الشعيبي» الذي سعى جاهداً عبره لتسليط الضوء على قامته المتفردة.

وجه «دعبلُ الخزاعي» سؤاله لـ«مروانَ بن أبي حفصة»: من أشعركم جماعة المحدثين يا «أبا السمط»؟!.. فقال: أشعرنا أسْيَرُنا بيتاً، فقال: من هو؟!... قال: «ربيعةُ الرقيّ» الذي يقول:

أما شعره فإنه أشعر أهل زمانه جميعاً، وما أجد أطبع ولا أصح غزلاً منه

لشتان ما بين «اليزيدين» في الندى «يزيد سليم» و«الأغر ابن حاتم»

صورة لغلاف كتاب جمع شعر ربيعة الرقي

ولعلك وأنت تقرأ هذا، سيخامرك الظنُ بأن أخبارَ الرجل وأشعاره، قد أتخمت بطون كتب الأدب وأخبار الشعراء!!.. لكنك واقع في حيرةٍٍ "لا محالة".. إذا اتبعت ظنك هذا!!... فالرجل منقطع عن الذكر إلا ما ندر، ولا تجد له ذكراً إلا لماماً، على أن هذا «اللمام» مختلفٌ عليه عند جماعة أهل الصنعة، والاختلاف يتعدى شعره إلى مولد الرجل واسمه وقبيلته، وغير ذلك مما لا يتسع المجال لذكره.

وأما اسمه "على الراجح" فهو: «ربيعة بن ثابت بن لجأ بن العيزار الأسدي»، وقيل «الأنصاري»... وحتى لقبه أيضاً لقي اختلافاً بيِّناً أيضاً، فقيل: «أبو ثابت» وذكر بعضهم أنه «أبو شبابه» وآخرون قالوا: «أبو أسامة» وإلى غير ذلك.

صورة عن جائزة ربيعة الرقي التي تقيمها مديرية الثقافة بالرقة

يقول «شوقي ضيف» في كتاب «العصر العباسي الأول»: «... وكان ضريراً، وتفتَّحت شاعريته مبكرة، فاخذ شعره يشيع حتى رقي إلى سمع «المهدي» فأشخصه إليه، فمدحه بعدة قصائد، وأثابه عليها عطاءً جزيلاً.. غير أنه حنّ إلى موطنه، فعاد إليه، وكان لا يبرحه إلا قليلاً، مما كان سبباً في إخمال ذكره، لبعده عن بلاط الخلفاء ومخالطة الشعراء في «بغداد»، ولم تروِِ له كتب الأدب شيئاً من مديحه في «المهدي».. إنما رويت له مقطوعةٌ من قصيدةٍ بديعةٍ قالها في «العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس» الذي كان «صفيَّ الرشيد» وفيها يقول:

لو قيل للعباس يا بن محمد قل: لا، وأنت مخلدٌ ما قالها

صورة لغلاف كتاب عن ربيعة الرقي

ما إن أُعدُّ من المكارم خصلةً إلا وجدتك عمّهَا أو خالَها

وإذا الملوك تسايروا في بلدةٍ كانوا كواكبها وأنت هلالُها

وجزاهُ «العباس» جزاءً بخساً، إذ بعث إليه بدينارين، فجنَّ غيظاً، وهجاه هجاءً مريراً، وعلم «الرشيدُ» بالقصة، فغضب على «العباس» وأمر لـ«ربيعة» بثلاثين ألف درهم وخلعة.

والحقيقة أنَّ الرجلَ شاعرٌ مطبوعٌ، يمتاز شعره برقة وسلاسة، لا يرتقي إلى وعر الكلام وإلى خشن اللفظ، إنما يميل للبساطة والعذوبة دون إسفاف، مما يجعل شعره قريباً من النفس والقلب، يسيراً على الحفظ، فسارت به الركبان وحفظته العامة والخاصة، حتى سرى في البلاد كالنسيم، ويقال: إن جواري «المهدي» قد شغفنَّ به، حتى كان بعض النسّاج يكتبون أشعاره على البُسط ومنها قوله:

وتزعم أني قد تبدلت خُلةً سواها وهذا الباطل المتقوّلُ

لحى الله من باع الصديقَ بغيره فقالت: نعم حاشاك إن كنت تفعلُ

ويبدو من أخباره أنه كان كثير التعلق بالنساء، ولاسيما الجواري، إذ راحت قريحته تجود بعذب الشعر رقيقه، حتى عدّه كثيرون أشعر الناس غزلاً في زمانه، كما يورد ذلك «شوقي ضيف» و«الشعيبي» من قول «ابن المعتز» في ذلك:«أما شعره فإنه أشعر أهل زمانه جميعاً، وما أجد أطبع ولا أصح غزلاً منه».. ويقول أيضاً: «كان «ربيعة» أشعر غزلاً من «أبي نواس» لأن في غزل «أبي نواس» برداً كثيراً، وغزل هذا سليمٌ سهلٌ عذبٌ، وغزله يسلك في الغزل الصريح، إذ كان في لهوٍ حتى لُقِّبَ بـ«الغاوي»... وممن كان يهواهن جارية يقال لها «عثمة» وفيها يقول:

«أعثمة» أطلقي العَلَقَ الرهينا بعيشك وارحمي الصّب الرهينا

تعلّق زائراً لك فارحميه فقد أورثتِ زائركِ الجنونا

ولما أن رآك الناس قالوا تعالى الله رب العالمينا

فقد أعطاك ربك فاشكريه جمالاً فوق وصف الواصفينا

إذا أقبلتِ رعتِ الناس حـسناً وإن أدبرتِ قيَّدتِ العيونا

ولو أنّ الملوك رأوك يوماً لخرّوا من جمالك ساجدينا

ولو أنّ النساء ملكنَ أمراً لكنتِ إذاً أمير المؤمنينا

ويقول في أخرى:

صاحِ إني غير صاحِ أبداً من حبِّ داحِ

أنا والله قتيلٌ لكِ من غيرِ جراحِ

ولعل بساطة الكلمة وسهولة الشعر واضحة، على أن ذلك لا يعني ابتذالاً في الشعر، لكنه مما يقال فيه: «السهل الممتنع»... وهو لا يكون إلا لشاعر مطبوع، ينفر من وعر اللفظ وغليظ الكلام، فتجود قريحته بما يجول فيها من غير تعمُّدٍ أو تكلُّفٍ واصطناع، كما كان البعض من شعراء عصره، ولعلّ ذلك الذي دفع «ابن المعتز» إلى أن يقدمه على أهل زمانه جميعاً، ويرفعه على رؤوسهم كأشعرهم، وهذا الكلام لا يأتي جزافاً أو تملقاً، إنّما قد صدر عن ناقدٍ حصيف وجهبذ من جهابذة المدارس النقدية القديمة، ولعل كتابه «طبقات الشعراء» أشهر من أن يعرَّف.

ولولا أن المجال يضيق أمام أخبار الرجل وخصائص شعره، لسردنا منها الكثير مما يعذب ذكره، ويسهل حفظه، لذا نكتفي بما قلنا، وحسب القارئ أن يجد ما يستزيد منه في كتب الأدب، مما ذكر من أشعاره، سواء: «طبقات الشعراء» أو«الأغاني» أو«العمدة» وغيرها، ونقف فقط عند قصيدة «مقيدة القافية» قالها في «الرقة» نقتطف منها:

حبذا «الرقة» دار وبلدْ بلد ساكنه ممن تودْ

ما رأينا بلدةً تعدلها لا ولا أخبرنا عنها أحدْ

لم تُضمَّن بلدة ما ضُمِّنَتْ من جمالٍ في «قريشٍ» و«أسدْ»

لقد استحقت الرقة ما قال فيها، واستحق «ربيعة» أن يكون باسمه كتاب يجمع أشعاره وأخباره، وجائزة شعرية تنظمها مديرية الثقافة بالرقة سنوياً، ولكننا نعتقد أنه يستحق أكثر بعد!!...