شهدت سورية في منتصف القرن الماضي انقلابات عديدة، فلا تكاد تصحو على رئيس، حتى تنام على آخر، ففي عام 1950 العام الذي تلا انقلاب حسني الزعيم، وفي ذات الشهر الذي قام بانقلابه آذار 1949...

ولد الباحث والناقد محمد جمد جدوع في قرية رجعان التي تقع على مسافة 125 كم شمال الرقة، وعلى الحدود السورية- التركية في منطقة تقابل بلدة حران التاريخية في تركيا، وكانت رجعان فيما مضى من الأيام تتبع إدارياً الرقة، أما الآن فهي تتبع محافظة الحسكة، ويقول الجدوع: "هكذا يؤرخ والدي- رحمه الله- عام ولادتي".

انتقل جدوع في صباه الأول إلى منطقة خربكة (شمال شرق الرقة 120كم)، التي شكلّت تكوينه الأول، حيث مرابع الصبا، ثم جاء إلى الرقة مرشحاً من قبل قبيلته للدراسة في مدرسة عشائر الرقة الداخلية، التي تقع بالقرب من الجسر القديم في منطقة الشامية، وهي الآن أثر بعد عين، وكانت المدرسة سابقاً تستقبل أبناء العشائر وبعد تعلمهم ينضوون تحت لواء عشيرتهم لنشر العلم بين أبنائها، لكن كاتبنا لم يكتفِ بدراسته الابتدائية، فالتحق بثانوية الرشيد حيث تابع دراسته الإعدادية والثانوية، وما لبث أن حصل على شهادة أهلية التعليم الابتدائي بعد حصوله على الثانوية، وكان ذلك في عام 1971 وتابع دراسته الجامعية في كلية الآداب قسم الجغرافيا بجامعة دمشق وحصل على شهادة الليسانس عام 1976م.

ثم عمل معلماً، ومدرساً ومديراً في عدد من المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية بالمحافظة، ثم مدرساً في معهد إعداد المدرسين بالرقة من عام 1976 ـ 1985م. تخللتها خدمة العلم الإلزامية.

ويقول جدوع: "كانت ومازالت خربكة هي النواة الأولى التي شكلّت شخصيتي، فهي تعني لي الكثير، ففيها رضعت الخصال البدوية الأصيلة كالصدق والصراحة والكرم والأنفة والاعتداد بالرأي، هكذا نشأت بكل عفوية، لكن في ذهني اختراق لجج المجهول وكشف خباياه، يحدوني الأمل بتعميم هذه الثقافة الأصيلة..في مدرسة العشائر تعززت هوايتي بالمطالعة، حيث نظام المدرسة يُلزم تلاميذ المرحلة العليا بالمطالعة المسائية لمدة ساعتين في يومين من كل أسبوع توزع فيهما قصص وكتيبات لشخصيات تاريخية خارج المنهاج الدراسي. كما أن جدتي لوالدي كانت تحفظ قصائد كثيرة من الشعر النبطي، وتسمعنيها، وبخاصة قصائد(نمر بن عدوان) الذي تعتبره أنبل وأشجع فرسان قبيلتها عدوان، وبالمقابل تشترط علي قراءة القصص الشعبية الأثيرة لديها، وبخاصة قصص الزير سالم وسيرة بني هلال وعبد الله الفاضل. وهكذا استطعت خلال السنوات الأولى من تعلمي إلى إضافة شيء جديد إلى حياتي، حيث بدأت تتشكل ملامح جديدة لشخصيتي الأدبية".

ويضيف: "في عام 1965 وبمناسبة الأخبار التي تواردت عن نية إسرائيل تحويل مجرى نهر الأردن، كانت بداية الكتابة في المرحلة الإعدادية، حيث كتبت خاطرة بعنوان: "من كان حارساً لا ينام". نشرتها اللجنة الأدبية الطلابية في الجريدة الحائطية الرافقة التي كانت ثانوية الرشيد تصدرها آنذاك. ثم تلتها أولى محاولات الترجمة من الفرنسية إلى العربية في عام 1968 بمساعدة المدرس القدير(حسن مامو) الذي شجعني على متابعة المطالعة والترجمة من الفرنسية إلى العربية، وكانت المحاولة الأولى ترجمة مقاطع من قصيدة بودلير(الباتروس ـ البطريق).

في عام 1972 وبعيد احتلال شاه إيران الجزر العربية الخليجية الثلاث(أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى)، نشرت أول مقالة لي بعنوان:(واعروبتاه فلسطين.. ثانية في الخليج) في دورية شعبة نقابة المعلمين في تل أبيض، وفي عام 1984 ألقيت أول محاضرة في رابطة الدراسات العليا فرع الرقة بعنوان(الإيدولوجيا بين الشكل والمشكل)، وفي عام 1985 ألقيت المحاضرة الثانية في المركز الثقافي العربي بالرقة بعنوان:(المرأة عند العجيلي)، وهي النواة الأولى لكتاب(التاريخ والعجيلي)، الذي نشر من قبل اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام/2006/ تبعه كتاب(أيديولوجيا القميص بين القضية والرعية)، ثم تلاه الكتاب الثالث دراسة (عبادلة الفكر)".

في بداية الألفية الثالثة استطاع الباحث محمد جدوع أن يرّسخ اسمه علماً بارزاً بين نقاد سورية، يُشار له بالبنان، من خلال الدراسات الأدبية والنقدية التي نشرت له في العديد من الصحف والدوريات المحلية والعربية، تميز بجرأة الطرح، من خلال منهجية علمية رصدت العديد من الشخصيات الأدبية البارزة في مقدمتها الأديب الكبير عبد السلام العجيلي، حيث أصبح مرجعاً مهماً في رصد دقائق وتفاصيل كتابات العجيلي المختلفة وحياته، كما استطاع التأسيس لمشروع يهتم بدراسة عبادلة الفكر تناول فيه بالدراسة والمتابعة ثلاث شخصيات فكرية مهمة في ساحة المشهد الثقافي والفكري العربي، وهي عبد الوهاب المسيري، وعبد الرحمن بدوي، وعبد الله العروي.

وعن هذا الكتاب، يقول: "لابد من التنويه بأن العنونة "عبادلة الفكر" تعرّف ذاتها بذاتها، فهي ليست جمعاً لأسماء تبدأ بـ(عبد)، بقدر ما تطمح لأن تكون جزءاً من مشروع فكري، نقدي مقارن يحاول– والمحاولة بداية الشروع في المشروع– تقصّي الدراسات الفكرية والعطاءات الإبداعية ذات الفرادة والتميّز، من خلال ما تتغيّاه في النهوض بالواقع الراهن، والتي تتبدى أصالتها بمقدار ما تتصدى لما نحن فيه، إضافة إلى المحاولات والتوجهات النقدية التي تساهم هي الأخرى بالممايزة بين الصالح الأصيل، والغث الأثيل.

على هذا الأساس تعتبر الدراسة عبادلة الفكر البداية الأولى التي ستتبعها دراسات أخرى حول عبادلة الإبداع القصصي والروائي، وعبادلة الإبداع الشعري، وتختتم السلسلة بعبادلة النقد. وما نحن بصدد دراسته(ثلاثة أبحر) فكرية، وكما أن لكل بحر لونه ومسمياته، طيباته وجواهره، مرجانه ولؤلؤه، كذلك هم العبادلة: عبد الرحمن بدوي، عبد الوهاب المسيري، وعبد الله العروي. فالبدوي لا تَذكر الفلسفة الوجودية أحداً على الساحة يضارعه فيها، ولا يذكر الفكر المقاوم للمشروع الصهيوني إلا والمسيري يتسيّده ويتقدم صفوفه، أما التنظير الإيديولوجي والمنهج التاريخاني، بالإضافة إلى مجموعة المفاهيم في العلوم السياسية فيعتبر العروي مصدرها ومشكاتها. ولأن جهود العبادلة بلغت من حيث المستوى إلى مضاهاة ومساماة الدراسات الفكرية ذات الجدّة والحضور، ليس على الساحة العربية فحسب، وإنما على مستوى الساحة الفكرية العالمية، وهذه المكانة التي حظيت بها جهود عبادلتنا ليس من قبل شهادات عربية، التي على أهميتها تعتبر شهادات ذات قربى، إنما استحوذت اهتمام مؤسسات وشخصيات أجنبية لها حضورها الفكري ووزنها المعرفي على الساحة الفكرية العالمية.

وعدا حضور وتأثير فكر العبادلة الفعّال على الساحة الفكرية العالمية، فإنه في المقابل مصدر إغناء وإثراء للفكر العربي المعاصر، الذي كثيراً ما وصف بالسبات والركود من جهة، وبالتابعية والتقليد من جهة أخرى، ومع تردي الوضع العربي وضعفه وهوانه في الساحتين الإقليمية والدولية، إلا أن ثقافة الأمل والنهوض يجب أن تشع في النفوس، وهو ما قام به فكر العبادلة من خلال جهود مضنية، وظروف قاسية من المعاناة والمعاياة، لكنه في المقابل أسس لبدايات مشاريع فكرية لها رؤى وأفكار منهجية، بعيدة كل البعد عن فوضى المعالجة والاعتباطية، وتعاملنا مع هذا الوزن المعرفي، لا ينطلق من أهواء وعلاقات شخصية ذاتية، لأن الحكم إن لم تضبطه ضوابط، وتحدده نواظم، يوقع الدراسة بمطب الذاتية، والذات بقدر ما فيها عقل، فيها هوىً وعواطف، والنواظم تقلل نسبة العاطفة والهوى، وتزيد من حكم العقل، لأنه- العقل–(أعدل الأشياء)".

ويتابع: "إن ما تتغيّاه الدراسة هو التقصي عن كل ما يساهم في القول والفعل عن مكانة حضارية يجب أن تُستعاد، وعن حقوق مغتصبة يجب أن تُسترد، وعن سيادة الأوطان والمواطنين التي يجب أن تُصان. على هذه الأسس اعتمدت الدراسة في وضع مقاييسها المتمثلة في: الحس العام والمصلحة الجماعية من جهة، والتأصيل والتأثيل من جهة أخرى".

ويؤكد جدوع أن ما نشهده اليوم في الساحة الفكرية العربية، من ارتداد ونكوص، وتأويل وتقويل للنصوص لمصلحة دعاوى مغرقة في الجهالة والظلامية، تعود إلى أدنى الدرجات، في ضحالتها الفكرية التي لا تنتسب لعصرنا بقدر ما تنتسب إلى عصر الأساطير والطفولة الفكرية. هذه الدعاوى الظلامية والفتاوى(الصراطية) تتناقض وتتعارض ليس مع الإسلام بآياته القرآنية وأحاديثه النبوية التي تحض على العلم والتدبّر وإحكام العقل بدل العاطفة والهوى من جهة، وتدعو إلى الاعتدال والوسطية، وترفض الإفراط والتفريط من جهة أخرى، وفي الوقت نفسه تنهى عن المغالاة واللامبالاة، وعلى الطرف الآخر يقف الفريق النقيض الذي لا يرى سفينة الخلاص إلا في التنكر للماضي كلياً، والتوجه نحو الغرب بذريعة اللحاق به، والذي تحيلنا دعوته إلى كائنات لا ذاكرة لها ولا أصول. وهؤلاء الفاوستيون– أتباع فاوست– لا يقل خطرهم عن الفريق الفتووي(الصراطي) الذي وصلت به الجرأة إلى إعادة المقولة سيئة الصيت(من تمنطق فقد تزندق)، وما يقابله الآن:(من تحزب خان)، وأن الفكرة والكفر مصدرهما واحد، لذا يبدو أن وضع الفريقين في كفتي الخطورة على الصالح العام، ومواجهتهما بالحجة والمنطق هو السبيل الأجدى للحد من دعوتيهما المريبتين".

وهكذا استطاع باحثنا أن يؤسس لمشروع مغاير من حيث الشكل والمضمون، تمثل برؤية تنويرية للناتج الثقافي العربي أولاً، ثم العالمي تالياً، ومازالت عجلة الإنتاج تدور، فله قيد الطبع كتاب بعنوان: "فلسطين بين النصوص التوراتية والكتابات الصهيونية"، ودراسة بعنوان "رجال الاستقلال في سورية". إضافة لسلسلة العبادلة التي سيكملها بعبادلة الشعر، وعبادلة الإبداع، وعبادلة النقد، وعبادلة المسرح، وأخيراً عبادلة الكفاح.

أما في مجال الإبداع فقد كتب محمد جدوع الرواية والقصة القصيرة، ولديه مخطوطه في مجال الرواية(مشروع رواية) بعنوان: "حصاد السراب"، ومجموعة قصصية بعنوان: "عرافّة حران".

كما استطاع كاتبنا أن يؤسس لمشروع جديد، فله مساهمات أخرى، ففي عام 2003 و2004م ساهم في الموسوعة العربية بدمشق بعدد من الدراسات عن مدينة الرقة، وبعض الشخصيات التاريخية. إضافة للعديد من الدراسات المنشورة في الدوريات المحلية والعربية، مع عشرات المحاضرات التي ألقاها في المراكز الثقافية ضمن القطر. أما الدوريات والصحف التي تناولت الدراسات التي كتبها فهي مثار حافز للمتابعة، منها وأهمها أخبار الأدب المصرية، الجزيرة السعودية، البيان الإماراتية، الوطن القطرية والبعث وتشرين والثورة والفرات السورية، إضافة للبرامج الثقافية في التلفزة التونسية والعراقية والسورية الفضائية تناولت كتاب التاريخ والعجيلي، وإيديولوجيا القميص بين القضية والرعية.

محمد جدوع علم من أعلام الفكر ليس من السهل تجاهل شخصيته، ومن الصعوبة بمكان أن تتجاهل نتاجه الفكري والنقدي الذي أرسى دعائمه بثقافة موسوعية قلّ أن تجدها في هذه الأيام، ومنهج علمي يرسم معالم تطلعاته النقدية والفكرية، وخطا حثيثة لإنتاج المغاير والمتميز.