بغيابه خسرت "الرقة" عالماً جليلاً وفقيهاً ورعاً؛ قضى معظم حياته مشغولاً بالعلم والتعليم، وكان بيته معقلاً لأهل العلم، ولا يخلو من طالب أو باحث عن معرفة أو مجلس صلح. كما امتلك مكتبة عامرة بالكتب القيمة التي لم يبخل بها على أحد.

مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 8 شباط 2019، تواصلت مع الباحث الدكتور "إبراهيم الرفيع" ليحدثنا عن الراحل "سالم الحلو"، حيث قال: «عرفت الرجل الفاضل "سالم الحلو" كاسم له دور مؤثر في مجال العلم الشرعي بـ"الرقة" منتصف الثمانينات من خلال محبيه ومخالفيه، بما حمله ذلك الحديث من مبالغات وإساءات وسوء فهم لم أتبينه إلا بعد معرفتي له عن قرب، فبدا لي محاوراً بارعاً، حيث امتلك قوة الحفظ والفهم والحجة. لقد كان عالماً ورعاً، تقياً، متواضعاً، صادقاً، جريئاً في قول الحق منذ بداياته في المدرسة الشرعية بـ"حلب"، ومحاورته لمعلميه وزملائه وأهل العلم هناك، وفي مرحلة دراسته في الجامعة الإسلامية في "المدينة المنورة" التي بدأها عام 1967، والتقى فيها مجموعة من العلماء من مختلف البلاد الإسلامية، فلم ينافق أو يغتر بمظاهر الحياة ولهوها، ولم يكن يتصدى لمسألة حباً بظهور أو دافع من هوى نفس، أو لمجرد جدال فارغ، بل رغبة في الوصول إلى الصواب على أسس علمية وحجج من نصوص الكتاب وصحيح النبي وأقوال العلماء، ومنطق العالم المتبحر مع ما تميز به من رحابة صدر وصبر على محاوريه، وابتسامة لا تفارق محياه ممزوجة بظرافة وطرافة تنمّ عن ذكاء وحسن بديهة. ومع ذلك لم يسلم من التشهير به، ونعته بأوصاف لا تليق بأمثاله من أهل العلم من قبل مخالفيه، الذين كان جلهم عالة على العلم الشرعي، إذ وصل الأمر ببعضهم إلى اتباع طرائق عدة في سبيل إيذائه والنيل منه بدلاً من تسلحهم بالعلم، ومقابلتهم الحجة بالحجة والتحلي بآداب الحوار، ومع ذلك لم يقابل إساءاتهم له بالمثل، بل بقي ثابتاً على منهجه متسلحاً بعلمه في وجه الباطل وأهل الجهل، ولم ينحرف وراء الأفكار الدخيلة التي روجت لها مختلف الجماعات الضالة التي اتخذت من الإسلام مطية لتحقيق مآربها، فأنكرها وحذّر منها، ودعا إلى الالتزام بالمنهج الصحيح، وقضى حياته داعياً إلى الحق مربياً ومدرساً فاضلاً، حيث ترك أثراً بالغاً في نفوس طلابه، وكان قارئاً باحثاً تقر عينه بصحبه مكتبته، إلى أن فارق الحياة وانتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها، ووري جسده الطاهر الثرى».

كنت في الرابعة عشرة من عمري في ثانوية "عمر بن الخطاب"، وقد كان وقتئذ مدرس مادة التربية الإسلامية، حيث كان صارماً في تعليم المادة، ولن أنسى ما حييت حبات الحجر المسننة التي يضعها بين أصبعيه ليفرك بها شحمة أذن الطالب بشدة لدرجة إدمائها أحياناً، يومئذٍ كنا نتمنى لو أننا انتقمنا منه، لكن بعد أن كبرنا وعملنا بذات المهنة، عرفنا حرصه على طلابه وتعليمهم والارتقاء بأخلاقهم. انتهج الشيخ "سالم" خطاً ومنهجاً غير المنهج السائد في المحافظة؛ وهو ما سبّب له الكثير من العداوات، لكنه ظل محافظاً على منهجه منصفاً في تعامله مع تلاميذه ومخالفيه على حد سواء، وتتغير الظروف وتتبدل التيارات وممثليها، لكنه ظل ملتزماً منهجه الذي عرف عنه، فلم ينجرف مع أولئك الذين حاربوا البشر والحجر والشجر، والتزم بيته رافضاً لما يحدث، وقد نقل لي هذا مشافهة عنه ووجهاً لوجه من أثق به وأصدقه، وإني لأحترم هذا فيه. وعندما وصلني خبر وفاته، خط قلمي بهذه المناسبة الأبيات التالية: جـلَّ الـمـصـابُ وعـمّتِ البلـواء... وانــهدَّ طـــودٌ شــاهــقٌ وبـناء لـمّـا تــرجّــل "سالمٌ" مُـتـبسّمـاً... ومــضى كـبـيراً هكذا العظـماء يا أيّــها الـرّجـل الـغنيُّ بـعـلمه... وحــيـاتُه زَهـِـدَتْ بـها الـفقراء والكفّ مشــلولٌ ولكن طـاولتْ... بإرادةٍ مــا لم تــطــلْـهُ ســمـاءُ تـرنو إلى العلياء رغم سـموها... لـتـنـالـهـا فـســمتْ بـك الـعلياء قـضّيتَ عمْركَ في العقيدة ثابتاً... والآخرون كأنّــهــم رقْــطـــاءُ يــتلوّنــون ولم يجاوز علـمُهم... أشـــداقهم، والـزُّخرُفاتُ غطـاء يا (سـالماً) فاهــنأ بـموتك إنّـما... بـدأتْ حــيــاتـك والـمُـقـام رُواء هي هــكـذا الـدنيا شـقـاء بينما... عـــنـــد الإله ســعــادةٌ وهــنــاء

الشاعر والأديب "محمود أبو الواثق" عنه يقول: «كنت في الرابعة عشرة من عمري في ثانوية "عمر بن الخطاب"، وقد كان وقتئذ مدرس مادة التربية الإسلامية، حيث كان صارماً في تعليم المادة، ولن أنسى ما حييت حبات الحجر المسننة التي يضعها بين أصبعيه ليفرك بها شحمة أذن الطالب بشدة لدرجة إدمائها أحياناً، يومئذٍ كنا نتمنى لو أننا انتقمنا منه، لكن بعد أن كبرنا وعملنا بذات المهنة، عرفنا حرصه على طلابه وتعليمهم والارتقاء بأخلاقهم.

الباحث إبراهيم الرفيع

انتهج الشيخ "سالم" خطاً ومنهجاً غير المنهج السائد في المحافظة؛ وهو ما سبّب له الكثير من العداوات، لكنه ظل محافظاً على منهجه منصفاً في تعامله مع تلاميذه ومخالفيه على حد سواء، وتتغير الظروف وتتبدل التيارات وممثليها، لكنه ظل ملتزماً منهجه الذي عرف عنه، فلم ينجرف مع أولئك الذين حاربوا البشر والحجر والشجر، والتزم بيته رافضاً لما يحدث، وقد نقل لي هذا مشافهة عنه ووجهاً لوجه من أثق به وأصدقه، وإني لأحترم هذا فيه.

وعندما وصلني خبر وفاته، خط قلمي بهذه المناسبة الأبيات التالية:

الشاعر محمود أبو الواثق

جـلَّ الـمـصـابُ وعـمّتِ البلـواء... وانــهدَّ طـــودٌ شــاهــقٌ وبـناء

لـمّـا تــرجّــل "سالمٌ" مُـتـبسّمـاً... ومــضى كـبـيراً هكذا العظـماء

يا أيّــها الـرّجـل الـغنيُّ بـعـلمه... وحــيـاتُه زَهـِـدَتْ بـها الـفقراء

والكفّ مشــلولٌ ولكن طـاولتْ... بإرادةٍ مــا لم تــطــلْـهُ ســمـاءُ

تـرنو إلى العلياء رغم سـموها... لـتـنـالـهـا فـســمتْ بـك الـعلياء

قـضّيتَ عمْركَ في العقيدة ثابتاً... والآخرون كأنّــهــم رقْــطـــاءُ

يــتلوّنــون ولم يجاوز علـمُهم... أشـــداقهم، والـزُّخرُفاتُ غطـاء

يا (سـالماً) فاهــنأ بـموتك إنّـما... بـدأتْ حــيــاتـك والـمُـقـام رُواء

هي هــكـذا الـدنيا شـقـاء بينما... عـــنـــد الإله ســعــادةٌ وهــنــاء».

يذكر، أن الشيخ "سالم الحلو" من مواليد عام 1946، قرية "المغلة كبيرة" في ريف "الرقة" الشرقي، درس في الثانوية الشرعية في "حلب"، ثم تابع دراسته الجامعية في "المدينة المنورة"، وتخرّج فيها عام 1972، بعدها تابع دراسته العليا في "القاهرة"، لكنه لم يكملها، وعاد إلى "الرقة" ليعمل مدرّساً وخطيباً، وتوفى 6 شباط 2019.