تربية المواشي بكافة أنواعها، وما يرافقها من اهتمام بالمنتجات الحيوانية، أحد الموارد الأساسية للحياة اليومية في الرقة، حتى أن هذه المدينة تشتهر بتربية أجود أنواع الأغنام في العالم، وهي "أغنام العواس"، ولعلَّ "الجبن البلدي" هو أحد أهم هذه المنتجات على الإطلاق.

للحديث عن هذا الموضوع، التقت مدونة وطن eSyria بتاريخ 13/3/2009 السيد "عبد الكريم الشاهر"، يعمل في صناعة الأجبان والألبان فقال: «يعتبر الجبن الذي تنتجه محافظة "الرقة" من أجود أنواع الجبن البلدي الموجود في المنطقة، حيث إن حليب الغنم الطازج هو المادة الرئيسية التي تستخدم في صناعته، ولا يتم أبداً استخدام حليب البقر إلا نادراً، ولا يخفى على أحد الفرق الكبير بينهما من حيث النكهة، وذلك في كل مشتقات الحليب، سواء في السمن أو اللبن أو الزبدة أو الأنواع الأخرى، وبناءً عليه نجد أن سعر المنتجات التي يستخدم فيها حليب الغنم، دائماً يكون أعلى من غيره. أضف إلى ذلك جودة المراعي التي ترعى فيها الأغنام في محافظة "الرقة"، وخاصة في منطقة "الشامية"، التي تقع على الضفة الجنوبية لنهر "الفرات"، وتحقق "الرقة" اكتفاءً ذاتياً من هذه المادة، ففي فصل الربيع وخاصة شهري "آذار" و"نيسان"، يبدأ مربو الأغنام في الريف والبادية، بصناعة الجبن وتصريفه في أسواق المدينة، وهناك كميات كبيرة منه تدخل السوق كل صباح، وهي تكفي حاجة سكان المدينة، وعادة ما تكون على شكل أقراص أو قوالب مستديرة أو مربعة الشكل، ويتم بيعه في أغلب الأحيان نيِّئاً، لتقوم النساء بتقطيعه وغليه في المنزل ومن ثم تخزينه».

اعتدت صنع مؤونة الجبنة كل عام بنفسي، وعادة يساعدني زوجي أثناء عملية التقطيع، وأثناء وضع الجبن في التنك، وهذا الأمرأصبح روتيناً سنوياً يضفي على حياتنا البهجة، وهو بنفس الوقت يجعلنا نثق بما نأكله

أما عن كيفية صناعة الجبن البلدي، فيقول "الشاهر": «إن الطريقة التقليدية التي مازالت النساء في الريف والبادية يستعملنها في صناعة الجبن البلدي، يمكن تلخيصها بما يلي: بعد أن تقوم النساء بحلب الأغنام، يقمن بتنقية الحليب بواسطة غربال ناعم أو قماش "الشاش"، ومن ثم يضعنه في وعاء كبير، غالباً ما يكون قِدراً من الألمنيوم، ثم يتم وضع خميرة خاصة، يطلق عليها الكثير من أهالي "الرقة" اسم "الدوفة"، وتسمى في محافظة "دير الزور" بالـ"منفحة"، وهي توضع بكميات ضئيلة جداً، ثم يتم تغطية القدر بقطع من القماش ويترك لعدة ساعات، حتى تأخذ الخميرة مفعولها ويتجبَّن الحليب، ثم يتم إزاحة الأغطية عن القدر.

وتقوم المرأة بعد غسل يديها بشكل جيد، بوضع يدها داخل القدر، وتحريك الجبن الموجود داخله حتى يتم عزله عن الماء، فتتجمع قطع الجبن الصغيرة في أسفل القدر، بينما يبقى الماء يعلوها، ثم تدخل المرأة غربالاً أو مصفاةً بحجم فوهة القدر وتسقطه فيه، وذلك لكي يضغط قطع الجبن، ويمنعها من أن تتسرب وتطفو فوق الماء، وذلك تسهيلاً لعملية نزح الماء من القدر، ولعدم فقد أي كمية من الجبن.

وبعد هذه العملية، يتم إحضار قطع من قماش "الشاش"، وتوضع عليها كمية معينة من الجبن، ومن ثم يتم شدها جيداً، ويدلك الجبن داخلها ليأخذ شكل القرص، والمرأة هي التي تحدد حجم القطعة حسب الطلب، ثم يتم وضع هذه الأقراص وهي ملفوفة بـ"الشاش" فوق بعضها بعضاً، والتثقيل عليها بواسطة حجر، والهدف من هذه العملية هو تصفية الجبن من الماء، فكلما كان الجبن خالياً من الماء كانت جودته عالية، وسعره أغلى، لكن هناك بعض الأشخاص الذين لا يقومون بتصفيته بشكل جيد، وذلك للاستفادة من وزن الماء أثناء البيع، وهذا النوع يعتبر من أردأ الأنواع المعروفة ومن الصعب بيعه عادةً، والمحلات التي لها سمعتها في السوق، لا تجرؤ أن تعرض هذا النوع من الجبن بين بضائعها، والحقيقة أن هذا النوع يندر وجوده في أسواق "الرقة"، وبهذه الخطوة السابقة، تنتهي مراحل صناعة الجبن البلدي، ولا يبقى سوى بيعه في السوق بأسرع وقت ممكن كي لا يتعرض للتلف».

ويحدثنا "الشاهر" عن كيفية تخزين الجبن البلدي، حيث يقول: «في الواقع إن أغلب نساء مدينة "الرقة"، يقمن بشراء أقراص الجبن من السوق وهي نيئة، ومن ثم يبدأن بعملية التخزين، وهي طريقة تقليدية لم تتغير منذ عقودٍ طويلة، لكونها صحية وسهلة في الوقت ذاته، حيث تقوم المرأة بداية بتقطيع أقراص أو قوالب الجبن، وذلك على شكل مكعبات صغيرة، وهناك نساء يقطِّعنها على شكل مستطيلات صغيرة، ثم يتم وضع قطع الجبن في أوعية كبيرة "طشت"، ويملح بشكل جيد ويترك لمدة قد تصل لثلاثة أيام أو أكثر، وهذه العملية تساعد على تماسك الجبن، كما تمنع فساده، ثم يتم وضع كمية من الماء في قدر متوسط الحجم، وبعد غليانه يوضع الجبن فيه، لكن بكميات قليلة وعلى شكل وجبات، ثم يتم إخراجها ووضعها فوق أوعية مسطحة "سفرة"، بحيث لا تتراكم فوق بعضها بعضاً، وعند انتهاء عملية الغلي والتبريد يوضع الجبن على شكل صفوف في أوانٍ معدنية "تنك" أو مصنوعة من الزجاج "قطرميز"، ثم تأتي المرحلة الأخيرة، وهي تحضير الماء المالح الذي يسكب فوق الجبن ليختم بعدها، وذلك بوضع كمية من الماء في قدر، ومن ثم إضافة الملح فوقه، ويتم تحديد مقدار الملح عن طريق وضع بيضة في الماء مع كل إضافة، إلى أن يطفو نصف البيضة في نهاية الأمر فوق سطح الماء، لتبدأ عملية غلي الماء المالح، ومن ثم تبريده وسكبه فوق الجبن حتى يغمره بالكامل، ثم تغلق "التنكة" ويذوَّب على أطراف غطائها مادة الرصاص عن طريق الاستعانة بأحد مصلحي "البوابير"، وبعد ذلك تحفظ في مكان بارد، غالباً ما يكون برادات الدولة المأجورة، بغاية تخزينها لتناولها في فصل الشتاء».

السيدة "هدلة مطر" من السيدات اللواتي يصنعن الجبن بنفسها وحول ذلك قالت: «اعتدت صنع مؤونة الجبنة كل عام بنفسي، وعادة يساعدني زوجي أثناء عملية التقطيع، وأثناء وضع الجبن في التنك، وهذا الأمرأصبح روتيناً سنوياً يضفي على حياتنا البهجة، وهو بنفس الوقت يجعلنا نثق بما نأكله».

(*) تم تحرير المادة بتاريخ 14/3/2009.