إن من أهم أهداف ومسؤوليات وزارة الثقافة في أي دولة كانت، الاهتمام بنشر الثقافة العلمية الأثرية، وكذلك قيام السلطات الأثرية "المديرية العامة للآثار والمتاحف" بالتنقيب المنهجي عن الآثار وصيانتها، وعرضها للزوار في متاحف لائقة، لأنّ المتحف هو الواجهة الرئيسة لأي عاصمة، ولأي مدينة كانت.

إنّ المتبقيات من الماضي هي شواهد حضوره، وهي لغة التفاهم بينه وبين والغد، وهذا هو الدافع الذي حدا بالدول إلى افتتاح المتاحف في العواصم والمدن، وهو أيضاً دافع واهتمام الأمم على كامل مساحة الكرة الأرضية بالاهتمام بالآثار، سواءً كانت لقى مادية، أو تراثاً ثقافياً مدوناً.

في عام /1981/ ميلادي، قررت وزارة الثقافة بالتعاون مع محافظة "الرقة"، إقامة ندوة دولية لآثار وتاريخ "الرقة"، وكانت هذه الندوة حدثاً علمياً هاماً، إذ شارك فيها مجموعة طيبة من علماء الآثار في العالم من أمثال: البروفيسور الهولندي "موريس فان لون"، والفرنسي البروفيسور "جاك كوفان"، والألمانيين، البروفيسورة "ايفا شترومنغر"، و"ميخائيل ماينكة"، ومجموعة أخرى من آثاريي أوروبا وأمريكا، ومن المشاركين العرب السوريين المدير العام الأسبق للآثار والمتاحف الأستاذ الدكتور "عفيف بهنسي"، والراحل الأستاذ الدكتور "عدنان البني"، والأستاذ الباحث "قاسم طوير"، ولفيف من العلماء العرب والسوريين، ونستذكر أيضاً محافظ "الرقة" الأسبق الأستاذ "محمد سلمان"، الذي كان له الفضل الأكبر في إقامة هذه الندوة الأثرية والتاريخية الهامة.

أختام أسطوانية من تل السويحات

ومن محافظة "الرقة" شارك في هذه الندوة الأديب الراحل الدكتور "عبد السلام العجيلي"، والأستاذان "حمصي فرحان الحمادة"، و"إبراهيم الخليل"، وبهذه المناسبة آنذاك تقرر افتتاح مُتحف لمدينة "الرقة" ليضم القطع الأثرية المكتشفة، في المواقع الأثرية المنتشرة على كافة أبعاد منطقة "الرقة"، وكان البحث آنذاك جارياً على قدم وساق لاختيار مبنى ملائم لتحويله إلى متحف، وبالفعل اتفق الجميع على أنّ مبنى "السراي القديم" هو المبنى الملائم، وتم افتتاحه في 1/11/1981 ميلادية.

حالة مبنى السراي "القديم"

يعود تاريخ هذا البناء إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي، حيث بنته الدولة العثمانية إبان تنفيذ مشروعها الخاص، بإسكان وتوطين العشائر والقبائل المحيطة بمدينة أسوار "الرقة" القديمة. وفي عهد الاحتلال الفرنسي لسورية، تم هدم هذا المبنى سنة /1926/ ميلادي، وتم تجديده في نفس العام، وأصبح مقراً للحاكم الفرنسي حتى عهد الاستقلال، حيث أصبح المبنى مقراً للقائم مقام السوري، وفي عهد الوحدة بين سورية ومصر أصبح المبنى مشغولاً من قبل المحافظة، ومن ثم تحول إلى مبنى للسجل المدني، وقبل قيام الحركة التصحيحية المجيدة، تحوّل المبنى إلى مقرٍ لقيادة شرطة المحافظة حتى السنة التي تقرر فيها تحويله إلى متحف أثري.

لوحة فسيفساء من مقتنيات المتحف

لابد أيضاً من الإشارة إلى أنّ المبنى في بداياته الأولى، كان مشيداً من اللبن المجفف، وبعد تجديده إبان الاحتلال الفرنسي بني بمادة الآجر المشوي. ويتكون المبنى من طابقين بمساحة إجمالية تقدر بـ/450/م2، وضمت إليه من الجهة الخلفية الشمالية حديقة مسورّة مساحتها تقدر بـ/800/م2، هذه الحديقة قمنا بتحويلها إلى مكان يضم معروضات للمكتشفات الأثرية الكبيرة في العراء الطلق مثل: الدنان الفخارية الكبيرة، والتماثيل البازلتية، وتماثيل حجرية، وتيجان أعمدة وغيرها من المكتشفات.

يتكون المبنى من طابقين كما أسلفنا، الطابق الأول، وهو الأرضي، يضم الآثار المكتشفة في المواقع الأثرية خارج مدينة "الرقة"، أما الطابق الثاني، فيضم الآثار المكتشفة داخل أسوار المدينة وخارجها. ويقسم إلى أربع قاعات عرض متحفي، القاعة الأولى: تضم مكتشفات متنوعة، أهمها لوحات الفسيفساء التي تم العثور عليها في قرية "حلاوة"، وتعود بتاريخها إلى عام /470/ ميلادي "الفترة المسيحية"، وعددها أربع لوحات، أكبرها حجماً اللوحة المعروضة على الجدار الغربي عند المدخل الرئيس للمتحف، تصور ثوراً في حالة حركة استطاع الفنان أن يضفي عليه نوعاً من القدسية، وهذا الرمز كان شائعاً في التصاوير الفسيفسائية من هذه الفترة. أما بقية اللوحات الثلاث الأخرى، فعليها صور للأشجار المقدسة والسبع الفراتي الشهير.

من نفائس متحف الرقة

أما بقية المعروضات الأخرى في هذه القاعة، فهي تعود لعصور مختلفة، الألف الأول قبل الميلاد، والعصر الروماني "التابوت الأخضر المزجج"، واللوحة النافرة التي تمثل وجهاً نافراً لشخص له قرنين قصيرين، يعتقد أنه يمثل "الاسكندر المقدوني"، وعلى أسفل هذه اللوحة نص كتابي باللغة اللاتينية يقول: «هذا العمل مقدم من أحد التجار البعلبكيين إلى معبد كبير الآلهة "جوبيتير"، وهناك أيضاً مجموعة من التوابيت المدفنية "السيستي". إلاّ أنّ أهم هذه المعروضات هي المعروضة في خزانة "الرصافة"، "كنز الرصافة"، وقد تحدثنا عنها في هذا الموقع قبلاً.

القاعة الثانية: تقع بمحاذاة القاعة الأولى، لكنها أكبر حجماً منها وتقدر مساحتها بـ/10×3/م، الخزانات ذوات الأرقام /1/ و/2/ تضم مكتشفات تل "الشيخ حسن" على "الفرات"، وهي عبارة عن مجموعة من الصحون المصنّعة يدوياً من عصر "أوروك" /3500/ قبل الميلاد، ومعلقة عملاقة من الفخار، وقطع من الحجر المقدس شكلها بيضوي، وهذا الحجر كان يوضع في المعابد، ونسميه اليوم بـ"حجر المقلاع".

هذا التل الآنف الذكر استمر السكن فيه حتى العصور الوسطى القديمة، لذلك نجد محتويات الخزانة الثانية فيها مجموعة من اللقى الأثرية، التي تعود إلى العصور الهلنستية والرومانية المتأخرة. أما الخزانتين رقم /4/ و/5/، فتضمان مكتشفات تل "خويرة" الشهير، وهي عبارة عن جرار فخارية متنوعة الشكل والحجم، وبعض التمائم القديمة من الألفين الثاني والثالث قبل الميلاد، وهناك مجموعة من الدمى الحيوانية، التي تمثل الكلاب، والضباع، والذئاب، وبعض الحيوانات الثدية الأليفة، وأشكال مختلفة من الخرز الزجاجي والحجري، ونماذج لعربات مصنوعة من مادة الفخار.

القاعتان رقم: /3/ و /4/، تضمان مكتشفات التلال الأثرية التالية: تل "الممباقة" على "الفرات"، وتل "العبد"، وتل "حلاوة" على "الفرات" أيضاً، وتلي "حمام التركمان"، و"صبي الأبيض" الواقعين على نهر "البليخ" بالقرب من "الرقة"، محتويات هذه الخزائن تمثل نفائس جيدة من أنواع الحلي، والأختام الاسطوانية والحجرية والطينية، ومجموعة كبيرة من أنواع الخرز والتمائم.

كما تضم هذه الخزائن تماثيل فخارية تمثل آلهة الخصب، مع مجموعة من القوالب لهذه التماثيل والدمى، وهناك مجموعة هامة من الرقم المسمارية الكتابية المكتشفة في موقع "الممباقة"، وهي عبارة عن نصوص كتابية تتحدث عن الحياة اليومية لهذه المملكة التي كان اسمها "أكالتا"، وفيها أخبار عن العلاقات التجارية اليومية في سوق "البازار"، والذي نسميه في "الرقة" "سوق الجمعة".

ويقول البروفسور "والتر ماير" أستاذ اللغات القديمة في جامعة "برلين"، وهو الذي ترجم كافة هذه النصوص المسمارية إلى اللغة الألمانية، إنّ اللوحة رقم /27/ تتحدث عن تجار من "توتول" "الرقة القديمة"، التقوا تجاراً من مدينة "ايمار"، "مسكنة" القديمة على "الفرات" في سوق "الممباقة"، بحدود النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، ويضيف أنّ النص يقول بأنّ "التوتوليين"، اشتروا خرافاً من التجار "الإيماريين"، واتفقوا أن يدفعوا لهم في العام القادم بدلاً من الخراف مجموعة من دنان الخمر، وتعتبر هذه اللوحة بمثابة عقد بين الطرفين، وهناك نصوص اقتصادية وعددية، وغيرها من النصوص ذوات المحتوى المتنوع.

في قاعة العرض رقم: /4/ توجد مجموعة من خزائن العرض، وتحتوي على مكتشفات كثيرة ومتنوعة من تلي: "صبي الأبيض" و"حمام التركمان" الواقعين على نهر "البليخ"، وأهم هذه اللقى المعروضة جرار فخارية مزخرفة من عهدي "حلف" والعبيد مؤرخة من /5800/ ولغاية /4500/ قبل الميلاد، تم العثور عليها في تل "صبي الأبيض"، ومن تل "حمام التركمان" مجموعة من القطع والمكتشفات ذات الأهمية الكبيرة منها، ركبة كبيرة لحيوان الفيل، وهذه إشارة هامة إلى أنّ الفيلة كانت تعيش في وادي حوض "البليخ"، قبل أن تنقرض في جميع مناطق الشمال السوري في عام /1700/ قبل الميلاد.

الطابق الثاني: يضم مكتشفات مدينة "توتول" القديمة، والمكتشفات العربية الإسلامية داخل أسوار المدينة الإسلامية، وفي منطقة القصور العباسية. وهذه المكتشفات معروضة في مجموعة من الخزائن موزعة على ست قاعات متواضعة المساحة، ويمكننا أن نحدد مصادر المكتشفات العربية الإسلامية من: مكتشفات سور "الرقة" الأثري، وقصر"البنات"، ومسجد "المنصور"، والقصور"العباسية"، وحصن "مسلمة بن عبد الملك"، وأجمل هذه المعروضات القطع الزجاجية البيزنطية والعربية، حيث اشتهرت "الرقة" آنذاك بإنتاج وصناعة الخزف والزجاج الرقي الشهير، وكذلك الأطر الجصية المزخرفة التي كانت تزين واجهات قاعات قصر "هارون الرشيد" في "الرقة".

متحف "الرقة" يحتوي على مجموعة كبيرة من اللقى والقطع الأثرية تقدر بالآلاف، لذلك لم يعد يتسع لعرض هذه المكتشفات، التي تزداد عاماً بعد عام، والكرة اليوم في مرمى وزارة الثقافة، فعليها أن تسرع في بناء المتحف الجديد، الذي رسم مخططه قبل أكثر من عقد من الآن، ومجلس مدينة "الرقة" خصص لهذا المتحف قطعة أرض على جانب نهر "الفرات" مساحتها /14/ ألف متر، والنموذج المجسم لهذا المبنى معروض في القاعة الأولى في المتحف القديم، ولم يبق إلاّ التنفيذ، ولا أحد يعلم متى؟.