حديث الغربة والحنين إلى الديار والأهل، يعد من أجمل الأحاديث، إذا تضمنته الرسائل، كما كان يحدث في الأيام الغابرة، عندما يرسل المغترب رسالة إلى أهله أو إلى حبيب أو صديق، فنشأت ثقافة المرسال وساعي البريد، وكان ما يميز هذه الرسائل الصدق، الذي يعتبر مفتاحاً للمحبة، ووصل القلوب، الآن اختزلت أشكال التواصل بين المتباعدين بالإنترنيت والأجهزة الخليوية التي استطاعت نقل الصورة والصوت والبيانات مباشرة، وصار نبض القلب المتسارع يدق في الرياض فتسمعه في "الرقة".

موقع eRaqqa اتصل بالمهندس الرقي "محمد المفتاح" المقيم في مدينة "الرياض" السعودية بتاريخ (1/12/2008)، وحاوره عبر الانترنيت عن حكايته مع الغربة، والشوق والحنين، وأسباب الهجرة والسفر، وسأله عن لواعج الغربة، وما يمثله الوطن الأم للمغترب؟

مهما طال اغتراب الإنسان، فلا بدّ أنّه عائد إلى أرض الوطن، وأتذكر دوماً شعراء المهجر، وما جادوا به من شعر وأدب أغنى الأدب العربي بكنز ثمين أسميناه "الأدب المهجري"، ويتبادر إلى خاطري الشاعر القروي "سليم الخوري" من لبنان الذي هاجر إلى البرازيل عام /1913/م، ومكث فيها خمساً وأربعين سنة، وعندما قرر العودة، قال في أصدق تعبير عن حال المغترب في أجمل بيتين من الشعر: بنت العروبة هيّئي كفني/ أنا عائد لأموت في وطني أأجود من خلف البحار له/ بالروح ثمّ أضّن بالبدن؟ فصحيح أن الفقر في الوطن غربة، وقد يكون الغنى في الغربة وطناً، ولكن هيهات أن يكون بديلاً عن الوطن الأم.. بلادي وإن جارت عليّ عزيزة/ وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام هذه هي حكايتي مع الغربة، فاعذروني!

يقول "المفتاح": «ارتبط الحنين بالغربة، وشكلَّ الاغتراب أو الهجرة قيمة إنسانية كبرى، أضافت للحياة معنى، استطاع الأدب بأشكاله المختلفة، أن يجسد لواعج الإنسان، الهجرة أمر اعتاده الإنسان منذ النشأة الأولى للبشرية، وما من بشر هاجر إلاّ وأسبابه حاضرة، ورسولنا الكريم ما هاجر من "مكّة المكرّمة" - مهبط الوحي ومكان المولد - إلى المدينة المنوّرة إلاّ مرضاة لله، وهذا ما فعله سيدنا "إبراهيم" عندما هاجر إلى فلسطين. والإنسان بفطرته يحنّ دوماً إلى الأصل، وهو مقيم بين ظهرانيه، فكيف به الحال إذا ما هاجر بعيداً عنه؟

المفتاح في حديث مع موزع الري في مشروع بئر الهشم

كم منزل في الحيّ يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل

والحنين إلى الأصل ليس من طبع الإنسان فحسب، بل قد تعدّاه إلى كل كائن يشاطره الحياة على هذه الأرض، وحتى النبات لا يخلو الأمر عنده من بدّ، وقد تنامى لخاطرة أحد الباحثين بأن الناي (أي المزمار المصنوع من عود نبتة القصب) في صوته شجن وحزن لأنّه يحنّ إلى منبته الأصلي الذي اُقتلع منه!

أمام المشروع الذي أصبح من ذكريات الأمس

وفي نهاية عام 1974م، وعندما لامست مياه سد الفرات عتبة دارنا في بلدتنا التاريخية "تل المريبط"، شعرنا بأنّ الفصل الأول من كتاب الغربة قد بدأ، فكانت الهجرة الأولى، وكانت معها الغربة الأولى التي قال عنها والدي رحمه الله: كلّ غربة تهون أمام الغربة عن "تل المريبط"!

ومرّت عقود من الزمن على هجرتنا الأولى، وماتزال "تل المريبط" محفورة في الذاكرة، وقد نقلناها صورة جميلة لأولادنا.

على كتف إحدى أقنية الري

قافلة العمر تسير، نكبر معها، ومعنا تكبر أحلامنا، دخل ماديّ محدود؛ غلّ اليد لا يجدي معه نفعاً، وبسطها حلم لا يُدرك!

لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق».

ويتابع "المفتاح" حديث الذكريات بقوله: «في عام /1992/م كان القرار الأصعب في حياتي؛ الهجرة خارج الوطن، فحزمت أمتعتي، وإلى أرض الحجاز كانت وجهتي، فحطّ رحالي في مدينة "الرياض"، ومع الهجرة هذه، بدأ الفصل الثاني من كتاب الغربة، فالهجرتان لا مناص منهما؛ الأولى ما كانت لتتمّ لولا تقدم مياه سد الفرات نحو بيوتنا، والثانية ما كانت هي الأخرى لتكون لولا الرغبة في سدّ الحاجة وتحقيق الحلم، فالمبدأ (مال الدولة ومال الناس حرامٌ المساس بهما، والاقتراب منهما جريمة)، وطالما أن الفقر في الوطن غربة، فما الفرق إذن بين غربة داخل الوطن وغربة خارجه؟! وهكذا بدأت رحلتي الجديدة بدموع الوالدين - طيّب الله ثراهما - وبدأ الصراع النفسي بين الذاكرة والواقع؛ بين ذاكرة تشدّني إلى الوطن وواقع يشدّني إلى المهجر، وبالعزيمة تمكنّت من مزاوجتهما بالتراضي، فتعايشا مع احترام كلّ منهما خصوصية الآخر، وتتالت فصول الغربة، وذات يوم أردت أن أهوّن على والدتي -المعروفة بحنانها الطافح - مرارة الغربة ولوعتها، فقلت مناجياً:

وتسألني عن الغربة؟/ وتلحّ في سمع الخبر

فأجيبها: هي طفلـة/ تركض تحت المطر!

فشعرت بالذنب، فاضطررت إلى التراجع وقول الحقيقة:

هي جرفنا الضمآن/ أيام ما انحسر النهر

بل العـذاب بعينـه/ ونارها تكوي الجمر!

وتستمر رحلة الغربة، ويطول الفراق، ويزداد الحنين إلى الأرض، والأهل والأحباب، وكلّما رأيت شيئاً له مثيل في الوطن أزداد شوقاً إليه؛ فزخّة المطر تذكّرني بالبرق والرعد والسيول في بلادي، وشجيرة برّية خضراء تختصر لي خضرة سهول بلادي، وتلة صغيرة أرى فيها شموخ الجبال في بلادي، حتى الصاج في الغربة له معي حكاية؛ فكلّما رأيته أتذكر خبز الصاج الذي اختصّت به بنات ريفنا الَرقّي الجميل، حيث انتظام دائرته ورِقّة ملمسه كانا إلى وقت قريب ورقة الاختبار لمن تريد أن تكون عروساً».

وسألناه ماذا تفعل خلال زياراتك إلى سورية، فيقول: «في كلّ عودة إلى الوطن، وعند بوابة الحدود، أتنفس الهواء بعمق، لعلّني أعوّض ما فاتني من أوكسجين الوطن، فهواء سورية ولا أنقى، وأجتاز الحدود، وأتوقف في محطات عديدة؛ في "دمشق" و"حمص" و"حماه"، وأمرّ على "حلب" لأرجع مع الزمان إلى أيام الجامعة، ولا أنسى أن أقتني أحدث كتب الاختصاص من مكتبتها، وأصل مدينة "الرقة" وقلبي مفعم بالأمل والحب للقاء من أعشق، فأزور الأهل أولاً، وأجوب مدينتي التي أعشق طولاً وعرضاً، وعندما أدخل شارع "المنصور" تعود بي الذاكرة إلى العام /1974/م، لأردد بيتيَ الشعر لشقيقي الراحل أحمد المفتاح:

في شارع "المنصور" كان لقاؤنا حُييّت حيّاً شارع "المنصور"

فكلّ سـاحبة العبـاءة خلفهــا كالبدر إذ لاح بليله الديجور

وزيارة واجبة هي الأخرى أقوم بها لمشروع "بير الهشم" الذي عملت فيه لسنين سبع قبل أن أهاجر خارج القطر؛ فتكون لي فيه جولة على أكتاف أقنية الري وبين محطات الضخ، لأستعيد أغنى تجاربي في ذلك المشروع الذي سيبقى بمكانة الخليل الأول الذي أحنّ إليه دوماً (ومن محاسن الصدف أنّي باشرت العمل فيه يوم (2/5/1985)م ورزقني الله ولدي البكر نايف في (2/5/1994)م، وعلى ضفاف الفرات تكون لي جلسة وربما جلسات، ولا أنسى بحيرة "الأسد" وقلعة "جعبر"، وأزور مع أخوتي ما بقي لنا من أرض "الصوّان" التي اعتدنا على تسميتها بهذا الاسم وهي الأرض المشاطئة لبحيرة "الأسد" والقريبة من بلدتنا القديمة "تل المريبط"؛ تلك الأرض التي لم تطلها مياه السدّ لتبقى شاهداً على "عِشرة العمر" التي بيننا، وهناك أقف لأناجي أطلالاً صارت تحت الماء، وآثار أقدام كانت تمرّ من هنا..

قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وإلى قرية "البهيرة" في "القامشلي" يحطّ رحالي لألتقي النصف الثاني من عائلتنا التي تشاطرت الغربة في الوطن الواحد، وهناك تجول ذاكرتي في جميل ماضيها، فتأخذني في ربوع أرض وطأتها قدماي أول مرّة صيف عام /1975/م وعشت بين زهورها أجمل سنتين من سنيّ العمر، وأمرّ على بلدة "عاموده" التي درست فيها أول سنتين من المرحلة الثانوية، وقد أزور ساحلنا الجميل إن أسعفني الوقت لأناجي جزيرة أرواد التي زرتها للمرة الأولى عام /1973/م عندما كنت طالباً في الصف السابع في آخر رحلة مدرسية لإعدادية "تل المريبط"».

وأخيراً ماذا عن العودة إلى الوطن؟ يقول: «مهما طال اغتراب الإنسان، فلا بدّ أنّه عائد إلى أرض الوطن، وأتذكر دوماً شعراء المهجر، وما جادوا به من شعر وأدب أغنى الأدب العربي بكنز ثمين أسميناه "الأدب المهجري"، ويتبادر إلى خاطري الشاعر القروي "سليم الخوري" من لبنان الذي هاجر إلى البرازيل عام /1913/م، ومكث فيها خمساً وأربعين سنة، وعندما قرر العودة، قال في أصدق تعبير عن حال المغترب في أجمل بيتين من الشعر:

بنت العروبة هيّئي كفني/ أنا عائد لأموت في وطني

أأجود من خلف البحار له/ بالروح ثمّ أضّن بالبدن؟

فصحيح أن الفقر في الوطن غربة، وقد يكون الغنى في الغربة وطناً، ولكن هيهات أن يكون بديلاً عن الوطن الأم..

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة/ وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام

هذه هي حكايتي مع الغربة، فاعذروني!»,