«طفولتي التي أعيها لا تختلف كثيراً عن طفولة أترابي. فيبدو أنّ عينيّ شهدتا نور النّهار لأوّل مرّة في شتاء عام /1950/م، في قرية من قرى محافظة "الرقّة"، في أقصى غربيّها، وهي قرية "حلاوة". وهي قرية صغيرة تغفو على الذراع اليسرى لنهر الفرات. وقد وُلدتُ لوالدين أميّين، لديهما مَيْلٌ فطريّ تقريباً إلى التّديّن البسيط ومحبّة لقراءة القرآن الكريم. لا تعرف بيئتنا في ذلك الوقت المدارسَ الرّسميّة، وفيما بعدُ تقريباً، أنشئت هناك مدرستان ابتدائيّتان، إحداهما في "مريبط" وهي مركز ناحية قديم عند منعطف الفرات من الشّمال إلى الشّرق، والثانية في قرية "الحويش"، وكان منتهى أمر المتعلّم في ذلك الوقت أن يلمّ المرء بقراءة القرآن الكريم في كُتّاب القرية. وكانت الكتاتيب معروفة في ذلك الوقت. وكان شيخُ الكتّاب يعلّم أحياناً شيئا من مبادئ الخطّ».

بهذه الكلمات المعبرة يبدأ حديثه لموقع eRaqqa ابن "الرقة" وفراتها العذب الدكتور "عيسى العاكوب"، الذي يدهمك باسمه، فيفتح أمامك ألف سؤال، وتتعجب من فراسته وتبحره بعلوم اللغة العربية وآدابها، وعشقه للشعر، لكن ما يذهلك في شخصه، حساسيته المرهفة، وإفراطه بالتماهي مع الصورة الشعرية، فتسمعه يتلو عليك ما تيسّر من الشعر الفارسي، فتخال نفسك بحضرة أحد أبناء "تبريز"، أو "أصفهان"، أو "شيراز"، هذا هو "العاكوب" الذي استطعنا مراسلته عبر البريد الالكتروني، فأتحفنا بتاريخ (11/10/2008) بإجابات شافية عن حياته ومشروعه الثقافي.

إنْ تلتحق بمدرستنا فسأضعك في الصّف السادس الابتدائيّ، وهكذا كان

ويتابع "العاكوب" سرد مفاصل حياته، فيقول: «في سنّ السادسة تقريباً ألحقني الأهلُ، بكتّاب القرية، وهي قرية "حويجة حلاوة"، فكنت أذهب مع الصّبية صباحاً إلى الكتّاب، ثمّ نعود بعد أربع ساعات تقريباً إلى البيت، وكان بيتُنا في ذلك الوقت في قرية "صاهود" المجاورة لقريتي "حلاوة" و"حويجة حلاوة". وكان المرحومُ الشيخُ "حسين المحمّد الأحمد"، شيخَ كُتّابنا، وكنت من ذوي الحظوة لديه؛ إذ كان الشّيخ متزوّجاً من إحدى عمّاتي.

الدكتور "عيسى العاكوب"

استمرّ تعلّمنا في الكتّاب ما يقرب من ستّة أشهر، استطاع كثير منّا بعد ذلك قراءة القرآن الكريم. وكان والداي مغتبطين جدّاً بقدرتي المتواضعة على قراءة القرآن الكريم، كما كنت متعلّقًا بهذا الأمر. وأذكر أنّني ربّما كنتُ حالةً لافتةً للانتباه لجمعي بين صِغَر السّنّ وتعلّم القرآن الكريم؛ إذ كنتُ أصغر التلاميذ.

استمرّت الحال كذلك إلى خريف عام /1963/م. في هذه الفترة التي امتدّت قريباً من سبع سنوات لم أنتظم في مدرسة رسميّة، ولكنّني كنتُ شديد التّعلّق بكلّ ما يتّصل بالقراءة والكتابة. كان في أعماقي محبّة لمن يقرأ ويكتب، وكنتُ ألتقي أحياناً بأشخاص من هذا الصّنف، وكثيراً ما كنتُ أسألهم أن يسطّروا لي خطّاً لأحاكيه كتابةً، لكي أتعلّم الخطّ. عرفتُ فيما بعد أنّه كان داخل الوعي الجمعيّ لأهلنا وذوينا محبّةٌ للقراءة والكتابة وتقدير كبير لهما. وربّما كان للقرآن الكريم فضلٌ كبيرٌ في ذلك. وفي الأحوال كلّها كان القارئ الكاتب، أيًّا كان حظّه من القراءة والكتابة، مقدّراً لأسباب كثيرة معنويّة وحتّى مادّيّة. وأشير إلى الأسباب المادّيّة لأنّ المجتمع في ذلك الوقت شهد تحوّلاً من المرحلة الرّعوية إلى المرحلة الزراعيّة، واستلزم ذلك تدويناً لكثير من المعاملات وعمليّات حسابيّة متّصلة بإنتاج القطن وزراعته. وكان مَنْ يأتون من المدن أمهر من غيرهم في هذه المسائل.

"العاكوب" محاضراً في "الرقة" بعد زمان

وفي عام /1960/م تقريباً، انتقلت الأسرة إلى قرية بعيدة في مقياس ذلك الزمان، وهي قرية "الحرملة" الواقعة ضمن مجموع من القرى الصغيرة يسمّى "حوائج كبير".

ممّا أعيه اليوم وعياً واضحاً أنّني بقيت طوال هذه المدّة مشدوداً إلى كلّ ما له صلة بالقراءة والكتابة، وقد انتظمتُ لمدّة قصيرة في عدد من الكتاتيب الأخَر، لكنّ ذلك لم يكن يشفي الغليل. وأجدني مدفوعاً إلى القول إنّ جزءاً من تعلّقي بالقراءة والكتابة مصدره تقدير الوالدة خاصّة للقراءة والكتابة، ولعلّ ذلك لديها يعود إلى نشأتها في بيت فيه قارئ كاتب جيّد، وهو خالي "معروف الأحمد"، وقد كان جميل الخطّ متأنّقاً في الكتابة، وشخصيّة اجتماعيّة معروفة، وكان له أيضاً اهتمام كبير بسياسة بلده.

"العاكوب" بين أهله

أشير أيضاً إلى أنّ إلمامي المتواضع بالقراءة والكتابة أحلّني منزلة طيّبة بين من هم في سنّي ومن هم أسنّ منّي. فكثيراً ما كان الكبار يلجؤون إليّ لقراءة رسالة وافدة، أو كتابة رسالة إلى بعيد. وكانوا يكرمون وفادتي بين الكبار، ويحلّونني محل المحَب المكرَم. وربّما أسهم ذلك في إحساس بالذّات والشّخصيّة لازلتُ أستشعر شيئاً منه.

في خريف عام /1963/م، حدث أمرٌ مهمّ في سير حياة الصّبيّ، إذ أنشأت الدولةُ مدرسة ابتدائيّة في قرية "الحرملة". فما كان من الظمآن القديم إلاّ أن يسارع للنّهل من المنهل. التحقت فوراً بالمدرسة حتّى من دون إخبار الوالد بذلك. وإزاء الالتحاق بالمدرسة كان الوالد يعيش شعورين متناقضين؛ فقدان المساعد في العمل الزراعيّ المجهدِ لدى رجل معيل متقدّم في السنّ معوز، وتحقيق رغبة الصّبيّ بالتعلّم.

كان الانتظام في المدرسة الرسميّة، في سمْتها العامّ ومعلّمها الحلبيّ الشابّ الأنيق الوسيم، جزءاً من تحقيق الحُلُم القديم الذي ظلّ يداعب النّفس لسنوات. ولكن أنّى لابن الثالثة عشرةَ أن يلتحق بالمدرسة التي تشترط قوانينُها أن لا يتجاوز سِنُّ المنتسب إلى الصّف الأوّل السابعة؟!

ههنا، على الحقيقة، مصداقٌ جليّ للمقولة العرفانيّة التي تقول: «كلٌّ مهيّأٌ لما خُلِق له». فقد رأى الأستاذ، أن يُلحق قارئي القرآن من التلاميذ بالصّف الثاني الابتدائيّ. وهكذا استمرّت الحالُ لما يقرب من شهر. ثمّ حدث أمرٌ آخر مهمٌّ، وهو أنّ تلميذاً من أبناء القرية كان في مدرسة قرية بعيدة، وكان في الصّف الرابع. وحين أُحدثت المدرسة في قريته انتقل إليها، وكان التلميذَ الوحيد في هذا الصّفّ. ولم يكن في الصّف الثالث تلاميذ في هذه المدرسة. ويبدو أنّه "إذا جاء القضا ضاق الفضا"، فقد أحسّ المعلّم أنّ الصّبيّ "عيسى"، تلميذَ الصّف الثاني الكبير السنّ، أولى بأن يكون في الصّفّ الرابع. وربّما كان طريفاً أنّ "عيسى" كان متفوّقاً في هذا الصّفّ، وكان ينال الدّرجات الكاملة.

وفي مجتمع ظاهرٍ فيه كلّ شيء، كان حديثٌ يُتداول في أنّ الصّبيّ "عيسى" مجتهد ومتفوّق. ومرّةً أخرى ربّما يكون لحصول الشيء من غير المكان المتوقّع حصولُه منه تأثيرٌ في الحديث عن الصّبيّ. لكنّ الذي أعيه الآن جيّداً هو محبّة المعلّمين لي وتشجيعهم إياي وحديثهم عنّي في المحيط البسيط.

في عام /1964/م حصل أمرٌ آخر لافت للنّظر، إذ كنت في زيارة لبيت من أقارب والدتي في قرية "حوائج صغير"، والتقى الصغير في أثناء السهرة بمعلّم القرية، الذي تبادل معه الحديث واختبره في بعض مبادئ الكتابة والحساب، وقال له: «إنْ تلتحق بمدرستنا فسأضعك في الصّف السادس الابتدائيّ، وهكذا كان».

فعلاً كان على "عيسى" أن ينتقل إلى المدرسة الجديدة، ولكن في صفّ أعلى ومع زملاء مختلفين ومعلّم من نوع آخر. بقي من العام الدّراسي شهران ونصف فقط، وليس ثمّة مكان محدّد واحد للإقامة، وليس ثمّة كتب، والامتحان على الأبواب.

هذه الأشهر القليلة حمّلت الصّبيّ عبئاً نفسيّاً وسلوكيّاً واجتماعيّاً ثقيلاً، لكنّ المشيئة الإلهيّة تجعل الحَزْنَ سهلاً. وصرت الآن أعي جيّداً طيبة شعبنا وسماحته وكرمه، وقد هيّأ المولى أن تكون لي في هذه القرية الطّيّبة خالتان، كنت أبيت عندهما، وكنت أجد من زوجيهما الحنوّ والعطف والإكرام. وجملة القرية كانت من أخوالي، وهذا من بواعث تسهيل الأمر.

في نهاية العام الدّراسيّ /1964-1965/م تقدّمت لامتحان نيل شهادة الدراسة الابتدائيّة، وكان امتحاناً على مستوى القطر، وكنتُ الناجحَ الوحيد في مدرستي.

في مطلع العام الدراسي /1965-1966/م التحقتُ بإعداديّة "مريبط" الرّسميّة، في الصّف الأوّل الإعداديّ. استمرّت الدراسة هنا لثلاث سنوات انتهت بحصولي على شهادة الدّراسة الإعداديّة العامّة عام 1968م. ولأنّ طبيعة الحديث تستدعي ذكر بعض الأشياء، سأقول إنّ الصّبيّ "عيسى" كان ينال الترتيب الأوّل في هذه السنوات الثلاث.

ممّا يلاحظ في هذه المرحلة تفوّق الصّبيّ في اللغة العربيّة واللغة الإنكليزيّة، وحتّى في الرّياضيّات. وكان من التوفيق أن يكون مدرّسُ اللغة العربيّة في هذه الإعداديّة مُجازاً أزهريّاً متمكّناً ومدقّقاً. ولا شكّ في أن يكون لذلك تأثير واضح في التكوين اللاحق. كان الأستاذُ "الشّيخُ إبراهيم حمزة الدّمشقيّ" مدرّسَ العربيّة طيلة السنوات الثلاث.

في خريف عام 1968م، التحقت بمدرسة المساعدين الزراعيّين في "الرّقّة"، وكانت قد أُحدثت توّاً. وهي مدرسة داخليّة تؤمّن الإقامة والمعيشة وتدفع راتباً شهريّاً. درستُ فيها صفّين، ثمّ كان عليّ بعد ذلك أن أنتقل إلى نظيرتها في "السلمية"، لمدّة شهرين، ثمّ إلى ثانويّة "بوقا" الزراعيّة في "اللاذقيّة"، لإكمال الثالث الثانويّ الزراعيّ، ونيل الثانويّة الزراعيّة في صيف /1971/م. وفي العام الدراسيّ الذي تلاه عملت معلّماً للصفّ الثاني في بلدة "شمس الدّين" من أعمال ناحية "مريبط"، ودرستُ في أثناء ذلك مقرّرات الثانويّة العامّة، الفرع الأدبي، إذ حصلتُ في نهاية العام على شهادتها.

في عام /1972/م، التحقتُ بقسم اللغة العربيّة من جامعة "حلب"، وكنت في سنوات الدراسة الأربع في هذا القسم أعمل مراقباً زراعيّاً في "الرقّة"، وقد تزوّجتُ في هذه الأثناء ورزقتُ ابنيَ البِكر "حسام الدّين".

في عام /1976/م، تخرّجتُ في قسم اللغة العربيّة من جامعة "حلب"، محصّلاً الإجازة في اللغة العربيّة وآدابها. وفي العام اللاحق التحقتُ ببرنامج دبلوم الدراسات العليا، حيث نلتُ شهادته عام /1977/م. وفي العام الذي يليه انتظمت في برنامج الماجستير في الدّراسات الأدبيّة، إذ نلتُ درجته صيف عام /1980/م. وكان موضوع بحثي فيه: "تأثير الحِكم الفارسيّة في الأدب العربيّ في العصر العبّاسيّ الأوّل".

في عام /1978/م، بدأت التّدريس في ثانويّة "جمال عبد النّاصر" في "الثّورة".

كانت هذه نقاطاً صاغت الطفولة وأثّرت في المراحل اللاحقة، وربّما يبدو لأوّل وهلة أنّها غير ذات أهمّيّة، لكنّ الأمر ليس كذلك فيما أحسب. فحين أتحدّث عن مدارج صباي، ومحالّ يفاعتي، أتحدّث وفي قلبي لهفةٌ، لهفةٌ ترجمتُها العمليّة أن نسعى بكلّ ما أوتينا من قوّة إلى تطوير أنفسنا، وتنمية قدراتنا البشريّة، وتحسين أدائنا، وخدمة بلدنا. وأحسب أنّ هذا هو المجالُ الذي ينبغي أن نتنافس فيه. ولعلّ خير هادٍ لنا في هذا التّوجيه هو كلامُ سيّد الخلق "محمّد" عليه الصلاة والسلام: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي».

علينا أن نتخلّى عن ذواتنا الأنانيّة الفرديّة؛ لتتكوّن لدينا ذواتٌ جديدة مبدعة خلاّقة نافعة. وليكن مقياسُ شخصيّاتنا مدى ما نقدّم لمجتمعنا، عند ذلك نرتفع عند الله تعالى، وعند النّاس».

وعن أهمية التحصيل العلمي، يقول "العاكوب": «لعلّ التّحصيل العالي والتكوين العلميّ من الأبواب الموصلة إلى شيء من هذا الذي أقول. الإعدادُ والتكوين والتحصيل التخصّصي من أساسيّات الارتقاء بالأداء، وإذاً لا بدّ من ذلك لأبناء محافظتنا مع الحرص دائماً على أن لا نكون لأنفسنا فقط، فحبُّ الذّات الزائد يُعمي ويُصِمّ. والآن عندنا طلائع جيّدة نتمنّى أن تُزجّ في ميادين العمل مع ملاحظة ما أسلفنا الإشارةَ إليه، مصداقًا لما قال العلاّمة "محمّد إقبال اللاهوريّ":

جِدْ بنَفْي الذّاتِ ذاتًا لا تهابْ اجتهدْ، واللهُ يهديك الصّوابْ

وقلنا: «"العاكوب" يقرأ الشّعر الفارسيّ إلى حدّ التّماهي، وكأنّه ابن "تبريز" أو "شيراز"، ما موقعُ هذا الشّعر من وريث امرئ القيس وطرفة والمتنبّي؟».

فأجاب: «هذا صحيح إلى حدّ كبير. ولعلّ من المفيد أن أذكر هنا أنّ صِلاتي الأولى بالثقافة الفارسيّة والتّفكير الفارسيّ بدأت بإعداد رسالة الماجستير في الدراسات الأدبيّة في قسم اللغة العربيّة من جامعة "حلب"، على أستاذ متخصّص بالأدب الفارسيّ، هو أستاذي المرحوم الدكتور "محمّد حمويّة". فقد تفضّل بالإشراف على بحثي الذي يحمل العنوان: (تأثير الحِكم الفارسيّة في الأدب العربيّ في العصر العبّاسيّ الأوّل- دراسة تطبيقيّة في الأدب المقارن)، كما أشرت إلى ذلك قبلُ.

وقد استلزم إعداد البحث أن أتعلّم شيئًا من اللغة الفارسيّة. لكنّ الانعطاف الكبير حدث فيما بعد، عندما يمّمت شطر شاعر الصّوفيّة الأكبر مولانا "جلال الدّين الرّوميّ" (تـ672هـ). فبعد الحصول على الدكتوراه بسنوات، كنتُ أبحث عمّا يروي غليلي في الآداب الأخرى، وقد ترجمتُ عدداً من المؤلّفات النقديّة الإنكليزيّة، لكنّ ذلك كلّه لم يسدّ الحاجة. وعبر قراءاتي لبعض آثار العلاّمة "محمّد إقبال" المترجمة إلى العربيّة وجدتُه شديد التأثّر بمولانا الرّوميّ مقدّراً جدّاً لهذه الشّخصيّة، وقد دفعني ذلك إلى متابعة مولانا الرّوميّ في آثاره المؤلّفة بالفارسيّة. وهكذا شيئًا فشيئًا وجدتُ نفسي في عالم الشّعر الفارسيّ الجميل، لدى أعلامه الكبار كـ"السّنائي" و"العطّار" و"الرّوميّ" و"سعديّ" و"حافظ". ولعلّ الإطلالة الأولى على الشّعر الفارسيّ كانت عبر النافذة الإنكليزيّة، ثمّ تحوّل الأمر إلى الفارسيّة. والشّعر الفارسيّ أخّاذٌ ومدهش، وهو يخاطب الوجدانَ والعقل، ويعبِّر في جملته عن فضاء روحيّ تتوق إليه النفوس. وحكاية تجربتي مع مولانا الرّومي وحدها تحتاج إلى حيّز واسع غير هذا الذي نحن فيه.

ويبدو مهمًّا أن أذكِّر بأنّني متخصّصٌ أساساً بالبلاغة العربيّة والنقد الأدبيّ، ولي كتبٌ في هذا المجال تدرَّس في عدد من أقسام اللغة العربيّة في الجامعات العربيّة. والثقافةُ الفارسيّة التي ينتمي إليها مولانا الرّوميّ فضاءٌ آخر آوي إليه كلّما أثقلتني مستلزمات الحياة المادّية. وتستدعي الدّقّة أن أقول إنّ فضاء الأدب الفارسيّ والثقافة الفارسيّة مجلى خاصّ لعظمة الإسلام وأَلْق القرآن، وكثيراً ما ألجأ إليه في تأييد فِكَر الإسلام العظيمة. ولستُ أرى خيراً في أن نحرم أنفسنا من الاستمتاع بمباهج العقل الإسلاميّ المبدع بغير العربيّة. ويشهد تاريخُنا الأدبيّ أنّ العصر العبّاسيّ (132-656هـ) من أزهى عصور أدبنا العربيّ؛ ولإفادتنا من إبداع المسلمين من غير العرب تأثيرٌ كبير في ذلك».

وعن دوافعه إلى التّخصّص في الشعر الفارسيّ، يقول: «أشير أوّلاً إلى أنّني لستُ متخصّصاً في الشّعر الفارسيّ على العموم، بل يصحّ أن تقول إنّني متخصّص في مولانا "جلال الدين الروميّ". ويقدّر الإيرانيّون جهودي في تقديم مولانا الرّوميّ إلى العرب، ويطلقون عليّ وعلى أمثالي بالفارسيّة تعبير (مولوى شناس)؛ أي خبير بمولانا. ومولانا "جلال الدين الروميّ" ينتمي كما هو معروف إلى المشرب العرفانيّ الصّوفيّ، وهو علمٌ من أعلامه على المستوى العالميّ. وفي داخل العرفان الفارسيّ، هو ينتمي إلى تقليد، أو مدرسة، ينتمي إليها الشاعرُ "سنائي"، والشاعرُ العارف "فريد الدّين العطّار"، صاحب الأثر الشهير (منطق الطير). وقبل ذلك، العارف الكبير "شمس الدين التبريزيّ"، معشوق مولانا "جلال الدين". أمّا الدّوافع إلى هذا الاتّجاه فهي المحبّة والإعجاب والإحساس بالرّوعة. فهؤلاء الشعراء يحدّثوننا عن أنفسنا في العوالم المختلفة التي مررنا بها وسنمرّ بها. إنّهم علماءُ نفس الإسلام. وحرماني منهم يعني حرماني من مَعين روحيّ يعزّ الاستغناء عنه».

وسألناه.. هل ظلّ الشّعرُ الإنسانيّ، الإنكليزيّ والفرنسيّ، والإسباني، حاضراً في كتابات "العاكوب" ودراساته النقديّة؟ فرّد قائلاً: «قبل عشر سنوات تقريباً، كان لديّ اهتمام خاصّ بالنّقد الأدبيّ الإنكليزيّ، وقد ترجمتُ من كتبه ما يزيد على عشرة كتب، ونُشرت هذه الكتب. بعد الانتقال إلى مولانا الرّوميّ، ما عدتُ أجد في نفسي ميلاً كبيراً إلى ذلك، وربّما إلى المنتَج الأدبيّ الغربيّ في جملته. يبدو المجالُ الذي تعمل فيه الذهنيّة الغربيّة المبدعة لا يستميلني. فآثار مولانا الرّوميّ مدرسةٌ كبيرة، وكبيرةٌ جدّاً، في الفكر والفلسفة والفنّ والاجتماع والنّفس والإنسان والجمال. وهذه المدرسة فيما أحسب تغني عن الكثير. والحكايةُ هنا شبيهةٌ بحكاية البحر الكبير، والسّواقي الصّغيرة، مع التقدير الكبير للإبداع أيًّا كان مكانه.

ويبدو مفيداً أن أذكر هنا أنّني غير منقطعٍ عن الثقافة الغربيّة، بل إنّ جزءاً كبيراً من عملي يقع في صميم هذه الثقافة، ولكن في الشّطر المهتمّ منها بفكر مولانا الرّوميّ وأدبه وشعره وعرفانه. وفي هذا المجال، ترجمتُ ثلاثة كتب كبيرة من مؤلّفات المستشرقة الألمانيّة الشّهيرة الراحلة الأستاذة "أنيماري شيمل". وهذه الكتب هي: (الشّمس المنتصرة - دراسة آثار الشاعر الإسلامي الكبير مولانا "جلال الدين الرّومي"، وأبعاد صوفيّة للإسلام، وأنّ محمّداً رسول الله. كما ترجمتُ كتاباً لمستشرقة فرنسيّة مهتمّة بمولانا "جلال الدّين". وهي الأستاذة "إيفادي فيتراي ميروفتش"، وأمّا كتابُها فهو: (جلال الدّين الرّوميّ والتّصوّف). وقد نشرت وزارة الثّقافة الإيرانيّة هذه الترجمة وترجمة كتاب (الشّمس المنتصرة).

بقي أن أقول إنّه جَدَّ لي اهتمامٌ بآثار المفكّر اليابانيّ الشّهير "توشيهيكو أيزوتسو"، وقد ترجمتُ له كتابين مهمّين متّصلين بالقرآن الكريم، وأعكف الآن على ترجمة كتاب ثالث له. وهو يكتب بالإنكليزيّة واليابانيّة. وهذه زاوية جديدة تخدم الدّرس القرآنيّ في ميدان علم الدّلالة».

واختتم الدكتور "العاكوب" حديثه قائلاً: «قد سألتَني عن الجديد في جملة نشاطي، والجديد هو عودتي من جامعة قطر إلى جامعة "حلب". وهذا أمرٌ يهمّني كثيرًا، فقد عدتُ إلى طلبتي في الدّراسات العليا وفي المرحلة الجامعيّة الأولى، وأنا مغتبط بذلك. وقد هيّأ المولى سبحانه أن أشارك في عدد من الأنشطة الثقافيّة في العام الماضي، من مؤتمرات ومحاضرات وندوات. وثمّة جديد آخر، وهو رياسة قسم اللغة العربيّة في جامعة "حلب"، بدءاً من هذا العام الجامعي /2008-2009/م. وهذه هي المرّة الثالثة التي أُولّى فيها هذه المهمّة».