"العتابا" لغة: مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة، و"العتابا" تكتب بالألف (عتابا) كالمواليا. وكلمة "العتابا": المفعول المطلق لفعل عاتبه، فنقول: عاتبهُ معاتبةً وعتاباً. قال الشاعر:

أعاتب ذا المودة من صديق/ إذا ما رابني منه اجتناب

إذا ذهب العتاب فليس ودّاً/ ويبقى الودُّ ما بقي العتاب

د. محمود النجرس

اعتبني فلان: إذا عاد إلى مسرتي راجعاً عن الإساءة، والاسم منه العتبى، فإذا ذكر كل واحد صاحبه ما فرط منه، فهو العتاب والمعاتبة. فالعتابا جاءت من العتاب والمُعاتَبَةُ، وتعني لغوياً الوجد، عتب عليه يَعْتبُ ويَعْتَبُ عتباً وعِتاباً أي وجد عليه.

أصل تسمية هذا اللون بالعتابا: لقد اختلف الباحثون الذين بحثوا في "العتابا"، وكتبوا عنها في أصل تسمية هذا اللون من الغناء التراثي بالعتابا، فمنهم من يقول إذا الاسم جاء من قعود المغني، أو شاعر الربابة على أعتاب البيوت، إمعانا في تكريم ممدوحيه، وإبداء مظاهر الاحترام لهم.

المطرب حسين الحسن

وهناك من بقول إن "عتابا" اسم لامرأة جميلة، تغنى بها المغنون، ودرج هذا اللون الغنائي الشعري باسم "العتابا"، وهناك رأي تناقله العامة هو أن بعض الأصدقاء أجبروا بأن يشهدوا زوراً على صديق لهم فحكم عليه بالقتل، وبقي هؤلاء الأصدقاء يعيشون حالة تأنيب الضمير، وفي الرؤيا رأى أحدهم صديقه المقتول يعاتبه، ويغني له بلون غير معروف في ذلك الوقت وهو غناء "العتابا"، والبيت هو:

أبات الليل جالمطعون عالظن. (عالظن: البعد من الضنى).

الغناء بمصاحبة الدف

ونيبان الزمن بحشاي عظن. (عظن: من العض بالأسنان).

أنا المجتول يا خلان عالظن. (عالظن: بدون إثبات).

بتهيمة والشهود انطو كفا (جالمطعون: كل مطعون، المجتول: المقتول).

ولكن الرأي الأكثر صحة أن "العتابا" كفنٍّ من فنون الأغنية الشعبية جاءت من العتاب والمعاتبة، أي معاتبة الحبيب لما يبديه من الصد والهجران.

فشاعر "العتابا" يلوم حبيبته على هجرها، والصديق على مجافاته وصدوده، كما أنه يلوم دهره ويعاتب دنياه وقومه ويصور نفسه، وكأنه الوحيد المستهدف بالمصائب والهموم، دون سائر البشر، وليس لهذا الفن أي علاقة بالعتبة والأعتاب، وإن كان بعض المتكسبين من "العتابا" كالغجر الذين يجيدون العزف على الربابة يجلسون على عتبات البيوت، يطوفون القرى والأرياف والمدن، وخصوصاً في الأعراس يمدحون الميسورين والشيوخ والوجهاء وإن كان بعضهم لا يستحق ذلك المدح، ولكن هذا لا يقلل من شأن "العتابا"، فإنها تبقى من الفنون الشعبية الغنائية الراقيّة، ونلاحظ أن كثيرين ممن أبدعوا في العتابا كانوا أمراء وفرساناً شجعاناً أو وجهاء في وقتهم.

تاريخ نشأة "العتابا": "العتابا" فن نظميُّ غنائيُّ، يؤكد بعض الدارسين والباحثين في التراث الشعبي الغنائي أن اختراعه يعود إلى القرن السابع الهجري، وهو استمرار وتطوير للفنون الشعرية الغنائية سبقتها كفن (القوما) استخدمته بعض القبائل العربية للغناء، وأوغلت به وجادت حتى نسب إليها، وأول من غنى بها "أبو حسين الحريري"، من "حوران" في سورية والمتوفي سنة /645/هـ، و"صفي الدين الحلي"، من مدينة "الحلة" في العراق، والمتوفى سنة /750/هـ.

ومنهم من يقول إنها تمتد إلى قرون سابقة لذلك العهد، ولكن عدم اهتمام المعنيين بالأدب هو الذي أدي إلى عدم تحديد تاريخ ظهورها، ولا سيما أن أرباب الأدب لم يأبهوا في حينه بالأغاني الشعبية، ولم يهتموا بأمر تدوينها والتحدث عن أوقات ظهورها، والحقيقة أن الذين درسوا "العتابا" لم يستطيعوا تحديد منشئها بدقة، وخير دليل على ذلك هو التباين في الآراء، ولكنهم بنوا قناعاتهم على بعض الشخصيات التي برعت بقرض هذا اللون من الأدب الشعبي، وجددوا فيها، ثم أوجدوا لها ميلاداً يتفق مع قناعات الجميع، وهو الانحدار الفكري الذي أعقب سقوط الدولة العباسيّة، حيث درجت الأشعار على لسان العامة من سواد الناس.

السمات المميزة للعتابا: يتركب بيت "العتابا" من بيتين (بأربعة أشطر)، الثلاثة الأولى منها تنتهي بكلمة واحدة، تتحد في اللفظ، وتختلف في المعنى، معنى ذلك أن يكون الجناس اللفظي تاماً بين قوافي الشطرات الثلاث الأولى مع الاختلاف الإلزامي في المعنى، أما الشطر الرابع فينتهي بالألف والباء، أو الألف الممدودة، أو الألف المقصورة، ويجوز أن ينتهي بقواف أخرى كالألف والهاء المهملة، أو الألف والتاء المفتوحة، وإن كان بشكل قليل.

معنى ذلك أن بيت "العتابا" يشكل وحدة معنويّة كاملة، ويعتمد على فن بديعي جميل هو الجناس، بالإضافة إلى إيجازه البليغ، وما فيه من قدرة الشاعر على حشو أقصوصة صغيرة، أو معنىً جميل من بيتين من الشعر، كما استعملت فيه ألوان أخرى بالإضافة للجناس كالبديع والبيان، فقلما نقرأ بيت "عتابا"، إلا ونجد فيه صورة من صور التشبيه والاستعارة، ولكن يبقى الجناس هو اللون الذي يطغى على "العتابا" طغياناً غريباً حتى أصبح قاعدة من قواعد هذا الفن، وطريقة النظم والقوافي التي يقف عندها الغصن الأخير (الرباط).

و"العتابا" أصلاً من الألوان الغنائية السوداوية الحزينة فهو مرادف للحزن والفجيعة والعتاب، والنداءات التي تقال في بداية بيت "العتابا" ونهايته تدل على ذلك، هذا عندما كانت "العتابا" في موطنها الأصلي في أطراف الصحراء والباديّة والأرياف، ولكن مع انتقالها إلى الحواضر بعد توطن القبائل البدويّة والريفية فيها، انتقلت "العتابا" إلى المدينة، وتعددت أغراضها، حتى شملت المدح والفخر والحكمة، ومال شعراؤها إلى الغزل والتشبيب، ووصف المحبوبة مدحاً جسدياً بارعاً.

ونستطيع أن نقول إن "العتابا" تمثل الشعر الرجولي إنها تمثل الفخر والمدح وتمثل الحزن الذي يفتح أمام الإنسان آفاق الحياة، ويملأ النفس طموحاً وشوقاً إلى المضي في طريقها باعتداد وزهو، إن "العتابا" أقرب إلى شعر الحماسة. الألم فيها رجولي لا يستحق صاحبه، إنما يصهره ويبلوره والبكاء فيها إن وجد، ليس كبكاء النائحات، بل هو ترقرق دمع يكتمه صاحبه حياءً وكبراً شأن الرجال.

و"العتابا" من الألوان الغنائية البدويّة الريفية حسب تقسيمات الأغاني الشعبيّة التراثية، فقد أدى البدوي هذا اللون مع بدايات الاستقرار، أي عندما انتقل من حياة التنقل والترحال إلى حياة شبه مستقرة على شواطئ الأنهار.

و"العتابا" نوع من الأدب الشعبي يُغنى مع الربابة، وهذا ما كان شائعاً قديماً، ويجوز غناء "العتابا" بدون ربابة، أي أن تُقرأ كالشعر، أما الآن بعد أن وصلت "العتابا" إلى المدينة أصبحت تغنى مع الفرقة الموسيقيّة الشرقيّة (الآلات الشرقية).

وغناء "العتابا" يرتكز موسيقياً على نغم "البيات"، ويمكن أن يُغنى بنغم "الحجاز"، إلا أنه يتصف بالحزن بكل ألحانه. وهي من الألوان الغنائية التي لا تغنى جماعية، بل تُغنى بشكل إفرادي من قبل الشاعر أو المُغني.

وهناك بعض الألوان الغنائية التي ترافق "العتابا" كـ"النايل" و"السويحلي"، كما يرافق غناء "العتابا" بعض الأنواع من الدبكات كـ"الماني" و"السيه" و"الهلابا"، "كل الهلا بالناهي"، "الميمر"، "الموليا الفراتيّة" ذات اللحن السريع، و"الميجنا" الفراتية، "والله ولا والله"، وغيرها من الدبكات.

و"العتابا" ضرب من الشعر الشعبي أبياته منفردة مستقلة تتكثف فيها الألفاظ والمعاني ولا تشكل قصيدة. وتُصنف حسب مضمونها إلى قسمين أو صنفين: الأول صنف الغزل والتشبيب ويطلق عليها اسم "العتابا الهواويّة". والصنف الآخر "الفراكَيات" (الفراقيات) وتشمل على شكوى الزمان والرثاء والفخر، وهذا تعبير عن عاطفة صادقة حزينة، فهي تبكي وتندب بطلاً ذا شأنٍ في عشيرته وترثي شهماً، ذا مروءةٍ، أو تشكو الزمان وأحداثه وصروفه، وعلى كلٍّ فإن الألفاظ المستعملة في "العتابا" فيها شيءٌ من الخشونة والقوة، حيث ترد فيها ألفاظ من طبيعة المجتمع الصحراوي والريفي مثل الركاب – الظعن – الخلا – العيس – الحادي – الذلول – البير.

ويتفق الباحثون في "العتابا" على أن بحرها الشعري هو الوافر، ويصاب البحر بالزحافات، والعلل في عروضه، وضربه، ولا نستطيع أن نقول إن "العتابا" بحرها الوافر، إلا إذا كانت محدودة النوعيّة، وهي "العتابا" المتداولة والمعروفة.

مَفَاْعَلَتُنْ مَفَاْعَلَتُنْ مَفَاْعَلَتُنْ/ مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن

َ َ ْ َ َ َ / َ َ ْ َ َ َ / َ َ ْ َ َ َ

مفاعلتن الأولى والثانية (الحشو) تقلب إلى مفاعيلن، أي يصيبها العصب وهو تسكين. مفاعلتن الثالثة في عروض البيت، وضربه يصيبها القطف، وهو إسقاط السبب الخفيف وإسكان ما قبله فتصبح مفاعلتن - فعولن.

وهذا نص من "العتابا":

هلي مالبِّسو خادم سملهم/ وبجبود العدا بايت سم الهم

انجاد اهلك نجم أهلي سمالهم/ جثير من النجم علا وغاب