يعد موقع "رجم الهري" الأثري في الجولان العربي السوري المحتل موقعاً أثرياً متميزاً، وله أبعاد فلكية ما تزال تثير الكثير من الأسئلة التي لم تجد لها أي جواب، وقد وصف بأنه موقع ينتمي إلى العصر البرونزي المبكر أي حوالي 3200 قبل الميلاد، وهو ما يجعله واحداً من أقدم المواقع الأثرية في العالم وأكثرها تعقيداً بالنسبة لمستوى الوعي في ذلك العصر.

«يقع "رجم الهري" في وسط الجولان على بعد 16 كيلو متراً (10 أميال) إلى الشرق من الشاطئ الشمالي لبحيرة "طبريا"، في أعلى وادي "الدالية"، ويرتفع عن سطح البحر 515 متراً. يتألف النصب من أكمة مركزية، أو رجم، تحيط به جدران متحدة المركز، يبلغ قطر الجدار الخارجي حوالي 155 متراً وارتفاعه متران تقريباً، والمساحتان المشغولتان، والأكثر ظهوراً في الموقع تعودان إلى العصر البرونزي الأول والمتأخر».

تتضح مكانة "رجم الهري" العظيمة من الوصف التفصيلي التالي لأبعاده: إذ يبلغ عدد الجدران المتحدة المركز حول مركز الرجم من 1ـ9 من الخارج إلى الداخل

ويضيف الباحث "عز الدين سطاس" عن الموقع: «إن الموقع وُصف وصفاً متنوعاً، كمركز احتفالي، وكسياج دفاعي، وكمخزن أساسي كبير، وكمكان للدفن، وأخيراً كمركز للرصد الفلكي، وأداة تقويم. وقد أحضر بناؤو "رجم الهري" نحو 42000 طن من الحجارة البازلتية إلى الموقع، فصنعوا بناءً من أروع النصب الحجرية في منطقة شرق المتوسط، إن الفترة المعروفة بشكل أفضل في الجولان، والتي سبقت الفترة الهلنيستية- الرومانية، هي حقبة الكالكوليتي (الحجري- النحاسي)، وهي فترة تتميز بالتنوع الخصب للثقافة الكالكوليتية في جنوب شرق المتوسط، تجلى هذا التنوع الإقليمي بقرى زراعية صغيرة مؤلفة من سلاسل متوازية من البيوت، بنيت بترتيب. وقد اعتمد الاقتصاد على الأغنام والماعز بشكلٍ مطّرد ومترافق مع الزراعة، وقد ظهر نظام اعتقادي ينتمي إلى ديانات الخصب، في عبارات منقوشة على أيقونات لممارسة الطقوس الشعائرية، كما تواجدت عبارات كهذه على أعمدة حجرية مصمّمة على شكل رأس بشري مع انخفاض بجزئه العلوي، نعرف النزر اليسير عن البنية الاجتماعية للثقافة الكالكوليتية في الجولان، ولكن ليس لدينا مبرراً، لكي نفترض وجود تنظيم اجتماعي على نحو مختلف عن مجتمع مماثل غير منظم تقريباً، وعلى عكس الحقبة الكالكوليتية، فإننا نعرف القليل عن العصر البرونزي الأول في الجولان».

الباحث عز الدين سطاس

ويتابع "سطاس" عن أبعاد الموقع قائلاً: «تتضح مكانة "رجم الهري" العظيمة من الوصف التفصيلي التالي لأبعاده: إذ يبلغ عدد الجدران المتحدة المركز حول مركز الرجم من 1ـ9 من الخارج إلى الداخل».

  • الجدار الأول: «يبلغ قطره 145 متراً من الشرق إلى الغرب، و155 متراً من الشمال إلى الجنوب، وقد كان مبنياً بعناية، وسماكته البالغة 3.2ـ 3.3 أمتار متماسكة بشكل ملحوظ في كل الأطراف، وقد حافظ على ارتفاعه في بعض الأماكن بحيث يصل إلى مترين، وذلك بسبب الصخور الضخمة المستخدمة وبالتحديد في القسم الشرقي، وقرب المدخلين اللذين يقطعان الجدار. ويبلغ عرض المدخل في الجهة الشمالية الشرقية 29 متراً وفي الجهة الجنوبية الشرقية 26 متراً. وكلاهما الآن مسدودان بالصخور المتساقطة، حيث بعضها كبير جداً. وهي بقايا بناء مستطيل الشكل كان أعلى من الجدران حيث إنه حجب الرجم المركزي».

  • الجدار الثاني: «دائري تقريباً، ويبلغ قطره من الشرق إلى الغرب 105 أمتار، ومن الشمال إلى الجنوب 115 متراً، وتبلغ سماكته الكلية 2.6 متر، وعرضه في الجنوب 3 أمتار وله عدة فتحات أو ممرات».

  • الجدار الثالث: «يشكل دائرة كاملة وقطره من الشرق إلى الغرب 70 متراً، ومن الشمال إلى الجنوب 90 متراً، ولديه بروز واضح إلى الجنوب، تبلغ سماكته 1.8ـ2 متر، ويحافظ على ارتفاع يزيد على المتر، كما يتصل الجدار الثالث بالجدار الثاني بجدرانٍ شعاعية نصف قطرية متينة جداً، وكانت جزءاًَ من التصميم الأصلي للموقع».

  • الجدار الرابع: «على شكل نصف دائرة، يحيط ببقايا قبور قديمة في الجهة الشمالية الغربية، قطره 50 متراً، وأجزاؤه الشرقية والغربية مغطاة بأبنية أخرى وعدد كبير من الحجارة المتساقطة. وتبلغ سماكته من 1.2ـ 1.5 متر، ويضم ممراً أو ممرين من حجارة بقياسات متعددة. يتصل هذا الجدار أيضاً بالجدار الثالث بواسطة جدارين شعاعيين».

  • الجدران السابع والثامن والتاسع: «يبلغ عدد الجدران المجزأة من خمس إلى ست جدران، وتؤدي إلى الرجم المركزي، تشكلت من جدران متحدة المركز. وتشكل كومة حجرية بيضوية غير منتظمة، يبلغ قطرها 20ـ 25 متراً وارتفاعها من 4.5ـ 5 أمتار. عند سفح الأكمة تنتظم عدة حجارة ضخمة جنباً إلى جنب، مشكلة جداراً، ومن المحتمل أنها قاعدة الأكمة نفسها».

  • ومن جانبه يرى الباحث "تيسير خلف": «إن المشكلة الأكثر صعوبة التي تعترض "رجم الهري" هي غياب بقايا منتجات الإنسان آنذاك، فبقايا المواد المجموعة التي تم التنقيب عنها داخله تغطي مساحة من العصر الكالكوليتي إلى الفترة الرومانية البيزنطية حتى الآن، اعتماداً على هذه البيانات وبصورةٍ منطقية، افترض الباحثون أن هناك مرحلتين مفيدتين في الألفية الثالثة قبل الميلاد، ونهاية الألفية الثانية، والمراحل الأخيرة من العصر البرونزي الأول، ثم أشكال من العصر البرونزي المتأخر».

    ويضيف: «إن هناك تفسيرين للمعلومات التي يزودنا بها:

    أحد جدران رجم الهري

  • "بقايا الخزف" الموجود في الموقع: «الأول هو أن البناء كله، كان مشروع بناء أنجز في زمن واحد في مجتمع العصر البرونزي، والثاني، هو أن الرجم المركزي وغرفة الدفن في شكلهما الحالي قد أضيفا في العصر البرونزي المتأخر إلى بناء موجود سابقاً في العصر البرونزي الأول، ووجدت بقايا البناء الأول مدفونة تحت أكمة مما يدعم هذا التفسير، إن إدراك هذا الفهم للمعلومات الأثرية معزز أكثر من خلال دراسة تقنيات الإنشاء التي تكشف تشابهاً بين هذا البناء وبين الأبنية التي يعود تاريخها إلى العصر البرونزي الأول، أي مستوطنات الأسوار في الجولان، من خلال الإشنيات النامية على البناء».

  • علم الاشنيات: «لقد تم إعداد دراسة شاملة لنماذج الطحالب والإشنيات النامية في المكان وكانت تهدف هذه الدراسة إلى تمييز مراحل البناء زمنياً داخل الموقع وتتضمن تحليلاً للعلاقات البنيوية بين الجدران، وملاحظة الانقطاعات في تواصل الصخور ذات الطبقة الخضراء، بالإضافة إلى دراسة للإشنيات والطحالب وطريقة نموها ومستعمراتها، وصنفت وحدات القياس المعمارية للموقع حسب أنواع الإشنيات والطحالب وحجمها، ولتحديد الزمن التقريبي للبناء احتاج الباحثون لمعايرة المستعمرة النباتية ومساحة امتداداها. وهكذا فقد تم فحص توزيع نماذج من الطحالب والإشنيات وحجمها من عدة مواقع محددة التاريخ في المنطقة للتمكن من تأسيس صلات بين ميزات مستعمرة الطحالب والإشنيات وتاريخها، وتتفق هذه العلاقة مع تصنيف "رجم الهري" كموقع من العصر البرونزي.

  • وقد تمكن الباحثون من خلال تحليل الإشنيات من تمييز الوحدات المعمارية الحالية من القديمة ضمن الموقع، ورصد البنى الثقافية ضمن البناء، وتوصلوا إلى افتراض أنّ أغلب الجدران الموجودة في الموقع تعود إلى مرحلة البناء الأولى. وقد أجريت تعديلات أثناء القرن الأخير على الجزء العلوي لعدة جدران أولية خاصة في القسم الشرقي، وكذلك في الجزء العلوي من مركز "رجم الهري"».

  • الأكمة المركزية: «وقد أثبتت التنقيبات أن الأكمة المركزية، تتألف من ثلاث مصاطب حجرية مسطحة، بحيث تستند الجدران الخارجية على الداخلية، وكانت المصطبة الخارجية أكثرها اتساعاً 5 أمتار، وترتفع عن السطح العام بـ 2.5 متر، المصطبة الدائرية الداخلية كانت مبنية حول غرفة الدفن، وقطرها حوالي 7.2 متراً، في القمة، وهي محاطة بدائرة أضيق وأخفض، وتتوسط السطح الذي ربما كان سداً أو صالة، وجد في الغرفة والمدخل قليل من الحلق الذهبي والسهام البرونزية وعدد من عقود العقيق، كما أن هناك بقايا من النصل الصوانية والخزفية، يعود تاريخ هذه المجموعة إلى النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد، والسؤال الذي يطرح نفسه، هل لهذه المواد استخدام آخر لغرفة الدفن في العصر البرونزي المتأخر؟؟ وهذه ظاهرة تمت ملاحظتها في أبنية كثيرة في الجولان».

  • مظاهر رجم الهري الفلكية والهندسية: «في عام 1967م، عندما اكتشف "رجم الهري" كان هناك جدال واسع في أوروبا حول علم الفلك الشرقي في مواقع العصر البرونزي، وكانت هناك فكرة أن علم الفلك، كان عاملاً مسبباً ومحفزاً في وضع وتوجيه فن العمارة الاحتفالي القديم، الذي كان مستخدماً بشكل واسع منذ أن نشأت المعرفة الوافية عن علم الفلك القديم وقياس الأشكال الهندسية والتخطيطات، خاصة عندما قادت برامج البحث بطرق نظامية إلى اعتراف تام بأن النتائج الفلكية تقارب أو تنحرف قليلاً عن السجلات التاريخية والأثرية».

  • التحليل الهندسي: «قام الباحثون باختبار الجدران الصخرية شبة الدائرية لمعرفة ما إذا كان باستطاعتهم الاستنتاج من أبعادها القائمة، استخدام وحدة قياس محددة في السابق، وحاولوا عن طريق التجربة والخطأ تحديد التقدير الدائري الأفضل لكل جدار من الجدران التسعة الممكن تحديدها.

  • كما تجنبوا البحث عن إحصائيات المضاعفات الخاصة بوحدة معينة لهذه البيانات لأن حجم البيانات كان محدوداً للغاية. وبعد عدة محاولات من نقاط الميل المختلفة، وجدوا أن الوحدة التي كررت الحلقة الدائرية بشكل أفضل كانت الوحدة 4.70 م. وباستثناء ما يتعلق بالدائرة 6، والدوائر 8 و9، التي تتواجد مباشرة بالقرب من وسط الموقع، فقد تراوح معدل الانحرافات بين العمودين الأخيرين في الجدول 2 بين 10-30 سم ، أي أصغر من حجم الأحجار التي تشكل الجدران. مع استثناءات قليلة، استندت الدوائر المضبوطة بالصورة الأمثل على وحدة 4.70 م التي كان الباحثون قد حددوها ووضعوها على قمة مخطط الموقع المتعلقة بالجدران الحجرية في كل الأماكن. يمكن ملاحظة الاستثناءات الرئيسية على الأجزاء الجنوبية للجدران 2 و3 والتي تبدو ممتدة قليلاً باتجاه الجنوب».

    ويرى "خلف" أن النتائج التي توصلت إليها الدراسات حتى الآن ليست حاسمة ولم تعط أي إجابة حول أسرار هذا الموقع، وهناك افتراضات حديثة تتحدث عن مرحلة أقدم من المرحلة المفترضة الحالية، كما بينت دراسات تتعلق بالطاقة أن الأعشاب تنموا في مركز "رجم الهري" بشكل يفوق حجمها الطبيعي في أي مكان آخر، وهو ما جعل بعض الباحثين يرون أن في المكان تمركزاً للطاقة الحيوية بشكل لافت للنظر، وهو ما يسير إلى دور فلكي غامض لهذا الموقع».

    ويختم "تيسير خلف" حديثه قائلاً: «إن الدراسات الحديثة بدأت تتحدث عن أصل سابق لهذا التاريخ أي إن الموقع يعود إلى العصر الحجري- النحاسي الكالكوليتيك، وهو ما يؤشر إلى إن موقع "رجم الهري" يسبق الكثير من المواقع العمرانية المعقدة المنتشرة في القارات الخمس، يعني أن الحضارة العمرانية في منطقة جنوب سورية وتحديداً في الجولان، لم تأخذ حقها بعد من الدراسة، وموقع "رجم الهري" بضخامته ودقة بنائه يبقى سؤالاً مطروحاً على علماء الآثار وعلماء الفلك وبحاجة إلى إجابات شافية منهم».

    ** صور موقع "رجم الهري" من أرشيف الباحث "تيسير خلف".