بين جنبات حقول اللوز والزيتون ومروج النرجس وشقائق النعمان، نشأ وترعرع في كنف أسرة محبّة للعلم والثقافة مجبولة بحب الوطن، "فياض كريم الفياض" ابن قرية "سكوفيا" في "الجولان" العربي السوري المحتل، كبر على صوت المهباج ورائحة القهوة العربية التي تملأ مضافة والده.

مدوّنة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 31 آذار 2020 الموثق والمصور "فياض الفياض" الذي قال: «كان والدي وجيه القرية ومختارها يجتمع السمار في بيتنا بشكل دائم، وكنت أستمع بشغف إلى حديثهم، ومنهم الشيخ "محمود الهلال" رحمه الله، إذ كانت اللقاءات فيها الكثير من العبر والنوادر، كنت أستمع لصوت الربابة حين تصدح في ليالي الشتاء الباردة، إنها أجمل اللحظات التي عشتها، حيث إن مشواري الدراسي بدأ في مدرسة "سكوفيا" الإبتدائية ولم أنقطع حينها عن مساعدة عائلتي في القيام بالأعمال الزراعية وكانت هذه الأعمال محببة لدي، وكنت أشعر بأنني أمتلك الجنة أو الجنة بين يدي، كنت أنظر إلى زرقة مياه بحيرة "طبرية" واستمع إلى خرير الماء المتدفق في وادي "مسعود" وأمعن النظر في عناق أشجار الزيتون المعمرة في وادي الزيتون الروماني، وأغاني الرعاة القادمين من بعيد، وصوت الناي يغني مع نسيم كل صباح، وخرير المياه في جرار النساء القادمات من عيون الماء، نعم لقد كنا في الجنة وربما الجنة في أرضنا».

"الفياض" وجه من وجهاء قرية "سكوفيا" ومن رجالات وقيادات "الجولان" و"القنيطرة" يحمل في جعبته تاريخ "الجولان" التراثي والاجتماعي مثالٌ للكرمِ والجودِ، تواصله مع جميع أبناء قريته بشكل مستمر، وبما أنني أهتم بتوثيق الموروث والتراث الشعبي كان مرجعي في توثيق العادات والتقاليد والألعاب والصور في منطقة "الجولان"

يتابع القول: «ومن أجل استكمال دراستي، انتقلت إلى محافظة "درعا" إذ حصلت على الشهادة الإعدادية وكانت رحلة جديدة مفعمة بحب العلم والتواصل مع الآخرين كانت فترات عظيمة بالنسبة لي، ثم انطلقت بعد ذلك لمتابعة دراستي في العاصمة "دمشق"، وكانت رحلة أخرى أكثر مشقة إذ تعودت على نمط جديد من الحياة وما أن أنهيت دراستي التخصصية حتى عدت أدراجي إلى قريتي، دخلت سلك التعليم وبدأت التدريس في قرية "خسفين" القريبة من قريتي وكانت لي علاقات طيبة مع أهلها لن أنساها ما حييت».

"فياض كريم الفياض"

يقول عن توجهه للتصوير الفوتوغرافي: «كنت مولعاً بحرفة التصوير الفوتوغرافي منذ نعومة أظفاري، وكانت لي وقفات كثيرة مع آلة التصوير المحببة لدي، إذ كانت كاميرات التصوير قليلة جداً حينذاك وغالية الثمن، واستطعت من خلال هذه الآلة توثيق العديد من الأماكن المهمة التاريخية والأثرية وبعض الشخصيات المهمة بالإضافة لبعض المناسبات في "الجولان" السوري المحتل قبل العام 1967 وقد نشرت معظم هذه الصور في مواقع متعددة للأبحاث والدراسات».

لم يقتصر طموحه وشغفه بتعلم كل جديد عند حدود التصوير، بل كانت له هوايات مختلفة أخرى إذ أنه عشق الفن التشكيلي والخط العربي، ومن الهوايات المحببة لديه كانت هواية الصيد البري، فالحياة البرية النادرة التي كانت تتميز بها مرتفعات "الجولان" جعلت منها مكاناً مناسباً لممارسة هذه الهواية.

"الفياض" مع وفد يزور مدينة "القنيطرة" المحررة

وعن ذكريات الزمن الجميل يقول: «اللقاء التاريخي الذي جمعني بالرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" إبان قيام الوحدة بين "سورية" و"مصر" في العام 1958، إذ التقى بأهالي "الجولان" وكنت أحد الأشخاص تحدث في هذا اللقاء عن أهمية الوحدة بين "سورية" و"مصر" وأهمية "الجولان" السوري المتاخم لـ"فلسطين" وضرورة تحصينه تحسباً لأي محاولة من الأعداء لاحتلاله، إذ كانت منطقة "الزوية" المتاخمة للحدود الفلسطينية من أول المناطق التي وصلها التيار الكهربائي وغير ذلك من خدمات، وكنت مشرفاً على محطة توليد الطاقة الكهربائية كوني درست هذا الاختصاص في "دمشق".

وفي العام 1967 وقبيل عدوان حزيران أغارت الطائرات الإسرائيلية على قرية "سكوفيا" وشنت عدداً من الهجمات الحربية ما أدى إلى سقوط العديد من الشهداء والجرحى، وكنت أحد المصابين في هذه الغارات، وكانت إصابتي بليغة، إذ تم نقلي إلى مستشفى "القنيطرة" ثم إلى "دمشق" لصعوبة تلقي العلاج في محافظتي بسبب حالتي الحرجة، كانت الحرب والخوف هما المسيطران، إذ نشبت الحرب ولا أدري مصير والدتي وزوجتي وأطفالي الذين تركتهم في قرية "سكوفيا"، كانت حالة النزوح قاسية لكل أبناء "الجولان" السوري المحتل، وكانت قاهرة بالنسبة لي لقد فقدنا كل شيء الأرض الأهل الذكريات، كل شيء تبدد في فترة قصيرة، وأصبحنا نجمع ذكرياتنا القديمة صورة من هنا وصورة من هناك، وكان طيف والدي لا يغيب عني أتذكر صوته الأجش ورائحة خبز أمي ورائحة القهوة العابقة في أنفاسي، وصوت المهباج الذي كان يطربني عندما ترتفع يد النجر لتسحق حبات القهوة الندية، وصوت الربابة التي يلتف حولها السمار من كل طيف في مضافة والدي، كل شيء تبدد وتلاشى في طرفة عين، كل الأشياء الجميلة تبعثرت، شريط من الذكريات يمر بذاكرتي ذكريات الحصاد وأغانيها، الأعراس، صوت المجوز، المقاومة الشعبية التي ولدت للدفاع عن "فلسطين" وحماية الحدود، صيد الأسماك من بحيرة "طبريا".

"فيصل محمود المفلح"

في "دمشق" تسلمت إدارة مديرية شؤون النازحين وساهمت مع زملائي في حصر عدد العائلات والأسر النازحة من "الجولان" بغية توثيق الأعداد بدقة متناهية، وتقديم المساعدات لجميع الأسر بعدالة، لم أتردد خلال عملي في القيادة القطرية أن أشرح لجميع الوفود الزائرة إلى مدينة "القنيطرة" المدمرة حكايتها الحزينة، خلال فترة تسلمي لمنصبي وحتى إحالتي للتقاعد ظل "الجولان" خاصرتي وحلمي وهاجسي اليومي، كيف لا وهو مرتع الأحبة».

"فيصل محمود المفلح" من أبناء قرية "سكوفيا" يقول: «"فياض الفياض" قامة من قامات "الجولان" ومن البعثيين الأوائل في "القنيطرة"، عرف بحبه أشد الحب لقريته خاصة ولـ"الجولان" عامة، وبعد أن ابتعد عن قريته بعد الاحتلال الإسرائيلي بقي حبها محفور بقلبه يتذكرها في جلسات وحدته، لذا قام بشراء أرضٍ على خط وقف الفصل في قرية "بئر عجم" وبنى منزلاً ليبقى يتنفس هواء بلاده ويراها أمامه».

"أحمد محمود الحسن" من أبناء قرية "سكوفيا" يقول: «"الفياض" وجه من وجهاء قرية "سكوفيا" ومن رجالات وقيادات "الجولان" و"القنيطرة" يحمل في جعبته تاريخ "الجولان" التراثي والاجتماعي مثالٌ للكرمِ والجودِ، تواصله مع جميع أبناء قريته بشكل مستمر، وبما أنني أهتم بتوثيق الموروث والتراث الشعبي كان مرجعي في توثيق العادات والتقاليد والألعاب والصور في منطقة "الجولان"».

الجدير ذكره أنّ "فياض كريم الفياض" من مواليد قرية "سكوفيا" في "الجولان" العربي السوري المحتل عام 1939.