«ما إن دخلنا بوابة مدينة "القنيطرة" حتى بدأت الذكريات تتدفق.. هذه الأشجار الباسقة على جانبي الطريق زرعناها مذ كنا صغاراً في المدرسة أثناء عيد الشجرة.. ورغم القذائف نفضت عنها غبار الموت وشربت من ندى صباحات الحرية.

وها هو مشفى الجولان الذي أبى إلا أن يظل واقفاً رغم القصف الكثير الذي جعله كورقة مثقبة.. وهذا الجامع وتلك الكنيسة معاً في القصف والسلم.. كل حي وشارع له في الذاكرة أفراح ومواجع... التحيات تأتيه من كل حدب وصوب.. ويطمئن على كل المعارف والأصدقاء».

لا أريد العودة إلى ألمانيا.. وغالباً ما يحط د."فيضي" رحاله في القنيطرة حيث يقطن والده. فنتجول في قراها وحاراتها، يستوقفنا الجولان المحتل، وننظر إلى تلك التلال الخضراء بحسرة وأمل يكبر يوماً بعد يوم بتحرير الأرض المحتلة

استرسل بذكرياته المؤلمة وانتقل بها إلى حياته الحاضرة.. خلال لقائنا في نهاية شهر أيار 2008، إنه "د.فيضي المحمود" رئيس كبار الأطباء والاختصاصي في جراحة القلب، المستشار الأكاديمي في مركز جراحة القلب بجامعة "إيرلنغن"، ابتدأ حديثه عن ذكريات الطفولة فقال: «طفولتي لم تفارقني رغم فراقي لها لعقود، فقد ولدت سنة 1948 في "بئر عجم" في "القنيطرة" ودرست الصف الأول وانتقلت إلى الثالث الابتدائي مباشرة لتفوقي بالدراسة، أكملت الرابع والخامس في مدرسة "البريقة" حيث كنا ننتقل إليها على الأقدام لكونها منطقة نائية، خزّن الجسد برد البريقة أيام الدراسة، وما زالت الثياب تحمل رائحة الطين الذي كان يملأ طريق المدرسة. المنافسة كانت على أشدها بين تلاميذ القريتين ما حثني على الاجتهاد. كنت أخاف المرور من أمام منزل أستاذي "حسان محمود" لقسوته رغم محبته لي وتشجيعه.. وما قسوته إلا دليل على اهتمامه بالطلاب... في الصف السادس انتقلت إلى بيت الجد والأعمام في "الجويزة" التي تبعد 14 كم عن القنيطرة حيث فيها طرقات وسيارات.. كنا نجلس بصندوق السيارة عند الانتقال إليها، وبقيت هناك حتى الصف العاشر، عدت إلى بئر عجم لمتابعة الحادي عشر والباكالوريا بعد شق الطريق الترابي».

مشفى القنيطرة المهدم

ويتابع "المحمود" قائلاً: «حصلت على شهادة الثالث الثانوي في عام 65-66 بالدرجة الأولى لاعتبار المحافظة نائية وبلغت علاماتي 178 ما أهلني لدخول كلية الطب في جامعة دمشق وكان التمويل من جدي الذي كان يتقاضى معاشاً تقاعدياً، في الوقت الذي كان دخل والدي محدوداً، فاستأجرت غرفة صغيرة في قاسيون رخيصة الأجر وكنت أفضل السير على الأقدام لتوفير النقود على الرغم من تدني قيمة المواصلات إلى الجامعة في ذلك الحين "فرنك سوري" ومع ذلك كنت حريصاً على توفير هذا المقدار من النقد علني أستفيد منه في مكان آخر... خلال السنة الإعدادية للطب وقعت حرب حزيران (1967) وأثناء الامتحان تم توقيف الفحوصات لذلك تركت "دمشق" وقفلت عائداً إلى القنيطرة بإحدى السيارات التي لم تتمكن من العبور، فأكملت طريقي سيراً لمدة تجاوزت ثماني ساعات (مسافة أربعين كيلومتراً) كي أطمئن على أهلي، كان يوماً مظلماً لا يسمع فيه إلا أزيز الطائرات والمتفجرات ولا يرى إلا الإنارة الزرقاء والنيران.. لا يمكن التكهن بما ستؤول إليه الأمور. عدت مع أمي وأختي من بئر عجم إلى تل الحارة وبقي والدي وإخوتي الشباب في المنزل ومن هناك وعبر طريق "درعا" ذهبنا إلى غرفتي في دمشق. وبعد أسبوع بدأ تسجيل أسماء النازحين الذين تم استقبالهم في المدارس. وكان نصيبنا ابتدائية "هدى الشعراوي" (حي المهاجرين) كان تجمع النازحين بحدود 300 شخص قمت أنا والشباب بتوزيع المؤن والحاجيات على هؤلاء النازحين ونظمنا أمورهم، بقينا هناك لمدة ثلاثة أشهر إلى أن فتحت المدارس أبوابها ففرغت وحصلنا كما غيرنا على مسكن ضمن مجمع استهلاكي في المزة الذي ما زال موجوداً حتى الآن باسم والدي.

وخلال الصيف نفسه حصلت من الحكومة لكوني طالباً على غرفة في المدينة الجامعية و(50) ليرة سورية هي دخل رئيسي لي ولعائلتي. وفي العام نفسه تم قُبول أخي في جامعات رومانيا للدراسة أعطيته حينها اثنتا عشرة ليرة سورية ليسافر. في عام (1972) تخرجت في كلية الطب بتقدير جيد وسجلت الدراسات العليا قسم العينية وحصلت على درجة جيد جداً ولهذا حصلت على جواز سفر لمتابعة الدراسة، وكنت قد راسلت جامعات ألمانيا للمتابعة بالعينية لكن للأسف كان المبلغ اللازم ليس متوافراً لي لدخول هذا الاختصاص فالتحقت بالجراحة القلبية عام (1976) وبقيت في شمال ألمانيا "دان برغ" عشر سنوات وتزوجت ألمانية. وخلال وجودي في أوروبا أنشأنا الرابطة السورية- الألمانية للمغتربين وجمعية الأطباء السوريين المغتربين.. وكنا نقيم مؤتمرات سنوية وصلت إلى (16) مؤتمراً في سورية لجميع الاختصاصات وتوافد أكثر من (1000) طبيب ألماني معنا خلال السنوات الماضية.. وقد أقام اتحاد الأطباء العرب المقيمين في أوروبا أكثر من (24) مؤتمراً طبياً ضمن العواصم الأوروبية والدول العربية ومن خلال هذه الهيئة تمكنا من جمع أكثر من (3000) طبيب عربي يمارسون العمل في أوروبا وهو اتحاد معترف عليه من قبل الأمم المتحدة كهيئة علمية مستقلة، من أهدافها جمع الأطباء العرب المغتربين وإنشاء جسور علمية مع الدول العربية وأوروبا، ومساعدة الطلاب والأطباء الذين يقصدون أوروبا للدراسة والتخصص، ويسعى دائماً لإقامة المؤتمرات وورشات العمل واللقاءات العلمية، وكذلك عقدت اتفاقيات لجامعات غربية مع جامعات عربية، فهناك اتفاقيات بين جامعة ايرلنغن الألمانية (أقدم جامعات ألمانيا وأعرقها حيث يتجاوز عمرها أكثر من 270 عاماً)، وجامعات في البحرين والإمارات والقاهرة، كما جامعة حلب والأندلس الخاصة في سورية، وأيضاً سعيت مع أحد المغتربين لعقد اتفاقية لجامعة كرنتين النمساوية مع الأندلس الخاصة، وسعيت لتأمين العديد من المنح للطلاب، بهدف إنشاء جسور علمية أكاديمية بين المؤسسات والجامعات الأوروبية والعربية. وكبداية تمكنا من استقدام طالب ألماني لمتابعة اختصاصه في مشفى باسل لجراحة القلب».

في القنيطرة المحررة

وعن علاقته بالوطن الأم أضاف: «نحن كسوريين نهتم بسورية ونستقطب أكبر عدد ممكن من المغتربين العرب لكونها البلد الوحيد الذي يستضيف الأشقاء ويقدم لهم التسهيلات. وسعينا في هذه الهيئة لإقامة ورشات عمل ولقاءات علمية في أغلب المحافظات السورية حلب، حمص، دمشق، وأيضاً الجولان. والحكومة الألمانية مسؤولة عن التمويل ولديهم ثقة بكل ما نعمل. لأننا نفهم القوانين الأوروبية ونعرف أين الثغرات التي يمكن من خلالها الدخول إلى المجتمعات الأوروبية، لنصل إلى أهدافنا المرجوة بالحوار العلمي والمنطقي مع حرية الرأي والاستنتاج المنطقي. ولهذه الهيئة مجلة دورية فصلية منذ أكثر من 17 عاماً وتصدر باللغة العربية وتطبع في ألمانيا».

ورغم انشغال د."فيضي المحمود" يأتي مع أولاده إلى سورية بشكل دائم، وها هي زوجته ترافق ابنته الصغرى التي تدرس في جامعة دمشق تقول: «لا أريد العودة إلى ألمانيا.. وغالباً ما يحط د."فيضي" رحاله في القنيطرة حيث يقطن والده. فنتجول في قراها وحاراتها، يستوقفنا الجولان المحتل، وننظر إلى تلك التلال الخضراء بحسرة وأمل يكبر يوماً بعد يوم بتحرير الأرض المحتلة».

بين الذكريات والخراب