حرص المهاجرون الشراكسة إلى مدينة "القنيطرة" على تعليم أبنائهم بالرغم من الظروف القاسية التي كانوا يمرون بها، حيث كانوا لا يزالون في مرحلة إعادة ترتيب أوضاعهم بعد التهجير خلال عقدين من الزمن. ومع تعاظم عددهم ومكانتهم في المدينة برز اهتمام الوالي العثماني على سورية في تلك الفترة صاحب الأبهة "أحمد حمدي باشا" ببناء مدرسة شركسية نموذجية /1883م/ والتي تم إحياؤها أيضا في عام /1933م/.

موقع eQunaytra ولمعرفة المزيد عن هذه المدارس الشركسية وتاريخ تأسيسها ونظام التعليم فيها وأهم من كان له الدور الأكبر في نجاحها التقى الباحث الأستاذ "عدنان قبرطاي" صاحب كتاب "صفحات مطوية من تاريخ القنيطرة والجولان" الذي سلط لنا الضوء على هذه الصفحات المطوية من تاريخ هذه المدارس.

المدرسة الشركسية في "القنيطرة" مفتوحة لأولئك العناصر الشابة الذين يرغب أولياؤهم في رؤية أولادهم لا يفقدون خصائص أسلافهم، والدراسات المتبعة في هذه المدرسة تتفق مع البرنامج الرسمي لإدارة التعليم العام ومصدّقة بشهادة وهذه الشهادة تعطي صاحبها نفس امتيازات من يدرس السرتفيكا السورية

• البداية "المدرسة الرشدية"

الأستاذ "عدنان محمد مصطفى قبرطاي"

قالت الصحيفة الصادرة من "دمشق" عام /1883/ باسم "سوريا"، عن المدرسة، أن تاريخها يعود إلى عام /1300 هـ/1883/ حيث جاء في العدد /912/، الصادر في /30/ رجب /1300 هـ/ 1883/، أن الوالي أمر بإنشاء مكتب "مدرسة" دعيت فيما بعد "المدرسة الرشدية"(1)، بسعة نحو مئتي تلميذ، ماعدا حُجر المعلمين، فأعطي الأمر إلى القائمقام، الذي أمر بمباشرة البناء بالسرعة الممكنة.

وقد بلغ عدد الشراكسة المهاجرين في تلك الفترة إلى القنيطرة عام /1883م/ حوالي /700/ شخص، حيث أن قصبة القنيطرة في تلك الفترة كان سكانها جميعا من الشراكسة والشيشان. كان مستوى التعليم في المدرسة الرشدية أكثر من ابتدائي ضمن نطاق نظام الصف الواحد وإن معدل أعمار التلاميذ فيها كان بحدود /10/ سنوات. وإن امتحانات نهاية السنة الدراسية، كانت تجري في يوم واحد وهو الخميس، ضمن إجراءات بالغة الجدية، بدليل استمرارها لمدة أربع ساعات.

كانت لغة التدريس على الأرجح في معظمها بالتركية ونظام التدريس فيها للذكور: سنة تحضيرية يدرس فيها لأطفال الأحرف الأبجدية+ تعلم القرآن+ الكتابة على الألواح. وفي السنة الأولى تعلم الأحرف الأبجدية+ تعلم القرآن+ الكتابة على الألواح أجزاء /4/ قرآنية، وتعلم الإملاء. وفي السنة الثانية تدريس القرآن الكريم+ مادة العقائد مع الشرح+ علم حال+ حساب+ إملاء+ مادة اسمها "يازي مشقه" باللغة العثمانية. وفي السنة الثالثة: تعلم مادة القرآن مجوداً+ وظائف أطفال (قصص أنبياء) معلومات مختصرة (مختصر قواعد اللغة التركية+ إملاء+ مادة "يازي مشقه".

وفي عام /1886م/ جرى فتح مكتب آخر للإناث، وتم صرف نفقات المكتب والمعلمة من مجلس المعارف (جريدة سورية رقم /1031/ في 14 محرم ورقم /1032/ في /21/ محرم بسنة /1303هـ/ 1886م/ ومن كتاب تاريخ الشركس (الأديغة) والشيشان لجودت ناشخو ومجلة الإخاء العدد /37/ حزيران /1992م/.

ونظام التدريس في مكتب الإناث كان: سنة تحضيرية: يدرس فيها البنات الأحرف الأبجدية+ تعلم القرآن+ الكتابة على اللوح، وفي السنة الأولى: تعلم الأحرف الأبجدية والقراءة والكتابة على اللوح أجزاء أربعة من القرآن الكريم+ إملاء+ مادة اسمها "عاد ديكيش" باللغة العثمانية، وفي السنة الثانية تعليم مادة العقائد مع الشرح+ قرآن كريم+ إملاء+ يازي مشقى+ مادة اسمها "ديكيش وايكنه ايشاري" باللغة العثمانة، وفي السنة الثالثة: تعليم مادة علم حال+ حساب+ وظائف إناث+ إملاء+ معجم+ وايكنه ايشلري، وفي السنة لارابعة: تعليم قصص الأنبياء (معلومات مختصرة (مختصر قواعد اللغة التركية+ إملاء+ مادة "يازي مشقه".

يُذكر أن المدرسة الرشدية الأولى في القنيطرة كانت بجانب الجامع الشركسي في حي القبرطاي، وقد تحولت فيما بعد لأسباب غير معروفة إلى مدرسة بنات القنيطرة (كما أفاد أحد المعمرين في القنيطرة). واللافت للنظر أن أول غارة إسرائيلية في /6/ حزيران/ 1967/ على مدينة القنيطرة قد قصفت بقنابلها تلك المدرسة ودمرتها تدميرا كاملا. وكانت المدرسة "الرشدية" في القنيطرة أول مدرسة شركسية في الوطن العربي، وقد افتتحت بعدها مدرسة ابتدائية حكومية في عمان عام /1900م/، بعد ربع قرن من المدرسة الرشيدية في القنيطرة

المدرسة الأدياكية (الآديغية)

ويتابع الباحث "قبرطاي حديثه عن المدارس الشركسية في "القنيطرة بالقول:

في عام 1933 رخص للسيد "رفعت غوت" بتأسيس مدرسة ابتدائية في "القنيطرة"، تتألف من خمسة صفوف وصف تحضيري باسم المدرسة الأدياكية "الآديغية" مختلطة للذكور والإناث، بشكل رسمي، تعلّم أولاد الشراكسة إلى جانب البيت والأسرة اللغة والتاريخ الشركسي، بالإضافة إلى الأدب الشركسي القومي كان اسمها المدرسة "الآديغية" نسبة إلى كلمة "آديغة" الاسم القومي للشراكسة.

واستمرت المدرسة عشرة أعوام من 1933- 1942م وهي امتداد للمدرسة الشركسية التي كانت منذ عام 1883م في العهد العثماني "بالقنيطرة".

وكان المنهاج المتبع في هذه المدرسة يطابق المنهاج الرسمي الذي كانت قد أقرته وزارة المعارف السورية، وكانت المواد تدرس باللغة الشركسية واللغة الفرنسية هي اللغة المتممة، إضافة إلى اللغة الثانية وهي اللغة العربية.

أما الصعوبة التي ظهرت منذ البدء ، فكان الاتفاق على وضع أحرف أبجدية للغة الشركسية غير الأحرف الأبجدية التي اعتمدت في الجمهوريات الشركسية ذات الحكم الذاتي في الاتحاد السوفييتي لذا تم الاتفاق بعد دراسات طويلة على وضع اللغة الشركسية وكتابتها بالأحرف اللاتينية وذلك تبعاً للقرار الذي اتخذه المؤتمر الشركسي الذي عقد في القنيطرة في أغسطس عام 1932م ، وحضره زعماء شركس من سورية وفلسطين وشرقي الأردن (وكان هناك دعوات لشخصيات شركسية مرموقة من مصر ) وعلى أثر هذا المؤتمر تم تأليف كتاب شامل للقواعد الشركسية من قبل لجنة من الأساتذة الشركس، وقد أخذت المدرسة على عاتقها عدا التعليم إحياء التقاليد والعادات الشركسية ( الأديغة خابزة ) وحاولوا حفظ التراث الشركسي من الضياع .

وتابع "قبرطاي" حديثه في نفس السياق: «كان الدوام في المدرسة "الآديغية" من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثانية ظهراً وعدد الدروس خمسة وعلى سبيل المثال كان دروس يوم واحد هي كما يلي لغة عربية، لغة فرنسية، لغة شركسية، رياضة، دراسة لمواد كثيرة باللغة العربية والشركسية مثل التاريخ والجغرافيا والحساب والكتابة وقواعد اللغة والتربية الإسلامية والجيولوجيا والزراعة، وقد طلب من الأطفال الذين يدرسون في المدرسة الشركسية ارتداء الزيّ القومي الشركسي الذي يتألف من القلبق والبنطال والحذاء الطويل وفي الصيف ميدعة بلوزة من النمط القفقاسي الروسي والحرير الأبيض مزررة من القبة ومشدودة إلى الخصر بحزام جلدي ضيق، أما الزي الموحد للبنات الصغيرات فهو أزرق أو أخضر مع صدار جبلية أحمر مزين بتخاريم وأخفاف من الجلد الأحمر الموشى ومن قلبق خاص أبيض ويحافظ على هذه الأثواب الموشاة بعناية كبيرة.

وكانت مصادر التمويل للمدرسة "الآديغية" مخصصات من وزارة المعارف السورية، وما تقدمه جمعية الثقافة الشركسية في "القنيطرة"، والتبرعات، وريع الاحتفالات والمهرجانات الرياضية المتميزة على مستوى القطر، وريع اليانصيب الخيري.

أماكن المدرسة .. معلموها وتلاميذها

الأماكن التي انتقلت إليها المدرسة الشركسية المختلطة ( المدرسة الأديغية ). كان المقر الأول للمدرسة خلف بيت الاستاذ صائم وبخ (باكير ) أبو نهاد بيت كوشه ناغوه ، وكانت مؤلفة من خمسة غرف من الصف الأول وحتى الصف الخامس وكانت المدرسة للبنين والبنات ،ثم انتقلت إلى : أمام نادي الجولان الشركسي – بيت السيد نوري أبازه أبو خالد . ثم انتقلت إلى : زقاق منزل محي الدين غوجل وبين منزل الاستاذ عيسى حاغور وكانت المدرسة في نهاية الزقاق ، ثم انتقلت إلى: جانب بيت السيد موسى غوكه مقابل بيت الحاج سيبك مقابل ساحة الحنفية وهو بيت رمضان، بين بيت موسى غوكه وبيت راغب كغدو وكانت هذه المدرسة مؤلفة من طابقين، ثم انتقلت إلى بناء المحكمة مقابل سينما الدنيا على ضفاف نهر الجاج ، ثم إلى بيت نوح أبش (الطويل مقابل بيت نوري كدكوي بالقرب من نادي صف الضباط واقتصرت معظم ساعات التدريس فيه على اللعب في البيدر وفي كل هذه التنقلات كان الطلاب ينقلون مقاعد وكراسي وتجهيزات المدرسة إلى المكان الجديد وأضحت الدراسة متوقفة بشكل فعلي.

وكان آخر عهد للمدرسة عام 1942م، ( بحسب ما ذكر السيد "فارس عمر حجو" المقيم حالياً في عمان وهو ابن مفتي القنيطرة السابق).

شغل منصب أول مدير للمدرسة "الآديغية" الخاصة في "القنيطرة" الدكتور السيد "محمد علي يحيى حالوق"، ثم السيد "عاكف خوناكو" وبعده المرحوم "أمين سمكوغ"، وكان من أوائل المعلمين في هذه المدرسة السادة التالية أسماؤهم :"عاكف خوناكو"، "إسماعيل أنزور"، "ستناي" الملقبة "بشارلوت"، "يحيى جركس"، "عبد المعين ملّوحي"، "أبو الفرج العش"، "عبد المجيد النص"، "يحيى الشهابي"، "فخري حجّو"، "طاهر كتاو"».

ونذكر من بعض تلاميذها المرحوم "محمود نغوي" من المدارية – المرحوم "محي الدين سمكوغ" من المنصورة – المرحوم "عوني عثمان" من القنيطرة – "عبد الطيف عبد الرحمن ينم" من المنصورة – "نجم الدين شعيب صوقار" من الصرمان – المرحوم "عزت عمر قانقوش" من المنصورة – "نجم الدين يوسف غش" من المنصورة –المرحوم "بدر الدين عزير يغن" من المومسيّة – المرحوم "رفعت طوموق" من القنيطرة.

ماذا قالوا في المدرسة الآديغية

كتب السيد "عبد المعين الملوحي" تحت عنوان "ذكرياتي في المدرسة "الآديغية" في "القنيطرة"، حيث كان أحد أفراد طاقم التدريس فيها: نلت شهادة الدراسة الثانوية قسم الفلسفة عام 1938م حينها استدعاني مفتش المعارف وقال لي: أنت قوي في اللغة العربية لذلك أقترح عليك الانتقال إلى مدرسة خاصة في "القنيطرة" لا تدرس فيها إلا اللغة العربية وسافرت إلى "القنيطرة" كانت المدرسة "الآديغية" تقوم في دار صغيرة وتضم عدة غرف وكانت مدرسة خاصة لأبناء "القنيطرة" من الشراكسة، وأعجبني العمل في المدرسة من خلال الطلاب المهذبون الأذكياء، وزملاء نبلاء منهم المرحوم "إسماعيل أنزور"، و"عاكف خوناكو"، ومدير واع مثقف هو المرحوم الأستاذ "أمين سمكوغ"، تدريس مادة واحدة في الصفوف الخمسة الابتدائية هي مادة اللغة العربية».

وقد كتبت الباحثة الفرنسية الآنسة "برو" عام 1936م عن المدرسة "الآديغية" بعد افتتاحها بثلاث سنوات: «المدرسة الشركسية في "القنيطرة" مفتوحة لأولئك العناصر الشابة الذين يرغب أولياؤهم في رؤية أولادهم لا يفقدون خصائص أسلافهم، والدراسات المتبعة في هذه المدرسة تتفق مع البرنامج الرسمي لإدارة التعليم العام ومصدّقة بشهادة وهذه الشهادة تعطي صاحبها نفس امتيازات من يدرس السرتفيكا السورية».

النهاية

في العام الدراسي عام 1942م حدث ارتباك كبير في مسيرة المدرسة الأديغية وأخذت هذه الظاهرة الفريدة ( في المجتمعات الشركسية ، في دول الشتات ) تحتضر، وتوقف التعليم فيها فعلياً، عدا بعض الدروس ( حساب .. حفظ أرقام...) وقد أغلقت هذه المدرسة نهائياً عام /1942م / زمن الانتداب الفرنسي وبسببهم.

(1)- تعد المدارس الرشدية في الدولة العثمانية، أعلى مرتبة من المدارس الابتدائية وأقل مرتبة من المدارس الإعدادية.

ملاحظة:

  • الصورة الرئيسية عبارة عن تلاميذ المدرسة "الآديغية" الشركسية أثناء رفع العلم السوري في الاجتماع الصباحي.

  • الصورة رقم /3/ عبارة عن تلاميذ وتلميذات المدرسة "الآديغية" أثناء ممارسة بعض التمارين الرياضية بإشراف الأستاذ "يحيى شركس" ويظهر في الصورة الزّي الأنثوي الشركسي للتلميذات.

  • الصورة رقم /4/ المهرجان الرياضي السنوي في المدرسة "الآديغية" عام 1934م.