اخترقت رصاصة غادرة من بندقية قناص صهيوني رأس المناضلة "غالية فرحات"، وهي تحاول أن تعيد الهواء والروح لعدد كبير من أبناء "الجولان" المحتل، وتحثّهم على الصمود في وجه البطش والموت، فقدمت حياتها قرباناً للأرض، وخلدت بموتها أسطورة المقاومة الحقيقية.

"عبد الكريم العمر" الباحث في تاريخ وشؤون "الجولان"، تحدث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 28 تشرين الثاني 2018، عن استشهاد "غالية فرحات"، فقال: «عندما هب طلاب مدرسة قرية "بقعاثا" صبيحة الثامن من آذار عام 1987 للاحتفال بافتتاح مشروع مد القرية بمياه الشرب القادمة من الوطن الأم "سورية" بمحاذاة خط وقف إطلاق النار، وضمن برنامج الاحتفالات بذكرى ثورة الثامن من آذار ويوم المرأة العالمي؛ الأمر الذي عدّته الشرطة الصهيونية تحدياً سافراً لقرارها بمنع سكان "الجولان" المحتل من التجمهر، ومنع وعرقلة الخطوة السورية في تقديم الدعم لأبناء "الجولان" المحتل وتعزيز صمودهم ومواقفهم النضالية، فأقدمت السلطات الصهيونية على محاولة اعتقال عدد من بنات القرية اللواتي منعن هذه القوات من التعرض لهن خلال إصرار قائد ما يسمى الشرطة الصهيونية "يعقوب غانوت" باقتحام القرية واعتقال المطلوبين فيها، وتفريق المتظاهرين بالقوة، فبدأت القوات الصهيونية إطلاق الغاز المسيل للدموع والتعرض للشيوخ والأطفال والنساء ضرباً بالعصي والهراوات، حيث هاجم أبناء القرية القوات المعتدية وطردوها من الشوارع بعد أن أصدر قائد القوات المعتدية أمراً بإطلاق الرصاص الحي على السكان، فاخترقت إحدى رصاصات الحقد الصهيوني رأس المناضلة "غالية فرحات"، وإلى جانبها عشرات المصابين من سكان القرية.

"غالية" كانت الجدة الحنونة صاحبة الابتسامة الدائمة، فإليها كنا نذهب كل يوم؛ كانت ابتسامة الحياة التي خطفها المحتل في لحظة، ما زلنا حتى اليوم على العهد نحيي الذكرى كل عام، ونقول إننا لن ننسى ولن نسامح، وشرف كبير لنا استشهادها في اليوم العظيم الثامن من آذار ثورة العامل والفلاح

منعت سلطات الاحتلال نقل "غالية" إلى المستشفى، حتى إن سائق سيارة الإنقاذ التابعة لمركز الطوارئ الطبي في مستعمرة "كريات شمونة" رفض الدخول إلى القرية لإنقاذها إلا بموافقة قوات الشرطة الإسرائيلية التي رفضت ذلك من دون أي مبرر، أربع ساعات مضت وجسد الشهيدة مسجّى على الأرض ينزف دماً حتى تم نقلها إلى مستشفى "رمبام" في مدينة "حيفا"».

جنازة الشهيدة "غالية فرحات"

وأضاف: «بعد استشهاد "غالية فرحات" تحولت قرية "بقعاثا" و"الجولان" كله إلى ملحمة بطولية، وتحدّ للإرهاب الصهيوني، حيث كان الاستعداد لإحياء عرس وطني كبير تزف فيه شهيدة "الجولان" خالدة في جبين الوطن ووجدانه، فمن قرى "مجدل شمس" و"مسعدة" و"عين قنية" كان الشيوخ والنساء والأطفال يقتحمون حواجز الموت والقهر الصهيوني المتمركز على مداخل ومخارج قرية "بقعاثا" للمشاركة في الطقوس الجولانية الخاصة بوداع الشهداء.

لُفَّ جثمان الشهيدة "غالية فرحات" بالعلم الوطني، وشارك في تشييعها الآلاف من أبناء "الجولان" وعرب "فلسطين" ومن مختلف الشخصيات الوطنية؛ يتقدمهم الشاعر الكبير "توفيق زياد" الذي خاطب الشهيدة قائلاً: "إنك غالية لكن الوطن هو الأغلى". كان يوماً من أكبر الأعراس الوطنية التي شهدها "الجولان" تحت الاحتلال، حيث يحتفل كل عام بذكرى استشهادها ووضع الزهور على ضريحها في قرية "بقعاثا".

مراسم تشييع الشهيدة "غالية فرحات"

وفي 17 نيسان عام 1987 أقامت محافظة "القنيطرة" مهرجان عيد الجلاء في موقع "عين التينة" في أحضان "جبل الشيخ" مقابل قرية "مجدل شمس" المحتلة، حيث جاء في مطلع قصيدتي التي ألقيتها يومها:

ألا بالدّمّ ترتاد المعالي... شعاب الشيخ أغلتك الغوالي

"عطا فرحات" أمام ضريح الشهيدة "غالية فرحات"

فهذي "الغالية" ضحت فداء... ونعم الأهل بقعاثا جولان النضال

ألا نـعم الفداء طريق المجد... يبث النور في ظلك الليالي

وجاؤوا مـرة ينوون ضماً... فذاقوا الأمر ضرباً من محال

أجل قد خاب ظنهم سريعاً... بجولان الكرامة والرجال».

الإعلامي "عطا فرحات" حفيد الشهيدة "غالية" كان حاضراً حين استشهادها، حيث قال: «لم يكن الثامن من آذار عام 1987 يوماً عادياً؛ فمنذ الصباح الباكر خرجنا طلاب مدرسة "بقعاثا" نطوف شوارعها مع شيوخ ونساء القرية احتفالاً بإيصال المياه إلى القرية من الوطن الأم "سورية"، حيث إن الأمطار التي كانت في ذلك اليوم كانت كبكاء السماء تنذر بشيء ما قادم، وعلى الرغم من شدتها وقسوتها التقينا طلاب مدرسة "مسعدة" الثانوية وسرنا معاً إلى منطقة "السلالم" شرقي قرية "بقعاثا"، وبعد طول انتظار علمنا أن الاحتلال منع وصول خط المياه إلى القرية، فعاد الحشود طريقهم وصولاً إلى ساحة القرية.

وقام كل فرد بدعوة مجموعة من باقي القرى إلى منزله لتقديم واجب الضيافة وتجفيف ملابسهم، ولم تلبث أن وصلت مجموعة إلى بيت جدي برفقة عمي الذي كان طالباً في المرحلة الثانوية، حتى سمعنا صوت إطلاق نار؛ فخرج الجميع يركضون باتجاه مدخل القرية الغربي، وبين أصوات الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع كنا نركض من حائط منزل إلى آخر، كانت جدتي "غالية" على الرغم من سنواتها 53، سبقتنا حاملة البصل لتوزعه على الشباب لإبطال مفعول الغاز، الأمر الذي لم يلقَ استحساناً من جنود المحتل، فصوب قناصته نحو جبينها وأطلق النار عليه، وصلنا خلال ثوانٍ إليها حيث كان وجهها مملوء بالدماء، والرصاصة التي أصابتها في جبينها كانت كافية لاستشهادها».

وأضاف: «"غالية" كانت الجدة الحنونة صاحبة الابتسامة الدائمة، فإليها كنا نذهب كل يوم؛ كانت ابتسامة الحياة التي خطفها المحتل في لحظة، ما زلنا حتى اليوم على العهد نحيي الذكرى كل عام، ونقول إننا لن ننسى ولن نسامح، وشرف كبير لنا استشهادها في اليوم العظيم الثامن من آذار ثورة العامل والفلاح».

الجدير بالذكر، أن الشهيدة "غالية صالح ملحم فرحات" الملقبة "أم سعيد" من مواليد عام 1934، زوجها "فرحان سليم فرحات" لم يتزوج بعدها وفاءً لها ولدمائها الطاهرة، وقد كرمها الوطن الأم "سورية" بإطلاق اسمها على عدة مدارس في "جرمانا" و"مدينة البعث"، إضافة إلى إطلاق اسمها على دورة تخرج للضباط في الكلية الحربية في مدينة "حلب"، وفي "لبنان" أطلق اسمها على مدرستين ابتدائيتين تخليداً لذكراها. وفي "الجولان" السوري المحتل أطلقت المؤسسات الوطنية اسم الشهيدة على أحد مخيماتها الصيفية التطوعية عام 1988، كما أطلق الأسرى والمعتقلون العرب السوريون اسم الشهيدة على إحدى منظماتهم في سجون الاحتلال، وحملت اسم منظمة الشهيدة "غالية فرحات" في معتقل "عسقلان" في ذات العام.