لأوغاريت المدينة والإنسان حكاية لا تنتهي، ويكاد منجزها الحضاري يغرق آلاف المجلدات بالمجد، في رحلتنا اليوم سنبحر مع أسطولها التجاري عباب المتوسط حاملين معنا من منتجات المدينة، الفكرية والمادية.

رغم عدم العثور على سفينة أوغاريتية غارقة حتى الآن في قاع المتوسط، إلا أن المدونات الأوغاريتية تذكر بالتفصيل واقع سفنها وملكياتها وما حملته من بضائع إلى أرجاء المتوسط، ويصر الباحث "سجيع قرقماز" في حديث مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 20 تشرين الأول 2014، على أن السفينة التي عثر عليها بالقرب من "أولوبورون" في المتوسط قرب "فيرازون" التركية عام 2000 هي أوغاريتية، ويفسر سبب ذلك بقوله: «تعود السفينة إلى القرن الثالث عشر ق.م، الحمولة الرئيسية للسفينة هي السبائك البرونزية، هذه السبائك كانت تصنع كما هو معروف في "أوغاريت"، ومما وجدنا في "رأس ابن هاني" قالب صب البرونز الوحيد في العالم للآن، والعدد الكبير من القوالب النحاسية في (أولوبورون) يمكن أن يدعم نظرية تبنيتها لأكثر من ربع قرن، ومفادها أن الكنعانيين، أو فينيقيي العصر البرونزي لعبوا دوراً رئيسياً في التجارة البحرية لشرق المتوسط».

تعود السفينة إلى القرن الثالث عشر ق.م، الحمولة الرئيسية للسفينة هي السبائك البرونزية، هذه السبائك كانت تصنع كما هو معروف في "أوغاريت"، ومما وجدنا في "رأس ابن هاني" قالب صب البرونز الوحيد في العالم للآن، والعدد الكبير من القوالب النحاسية في (أولوبورون) يمكن أن يدعم نظرية تبنيتها لأكثر من ربع قرن، ومفادها أن الكنعانيين، أو فينيقيي العصر البرونزي لعبوا دوراً رئيسياً في التجارة البحرية لشرق المتوسط

يصر بعض العلماء أن "الميسينيين" احتكروا التجارة البحرية خلال عصر البرونز، ويتحدثون عن تسويق الآنية الميسينية في المتوسط عموماً كدليل إثبات لصحة كلامهم، يعلق الباحث على هذا الكلام قائلاً: «هذه نصف الحقيقة، لقد كان هناك شيء مقابل تلك الآنية، وهذا الشيء عاد إلى اليونان من الشرق، واستعصى على العلماء. وما زلت أعتقد أن هذا الشيء كان عبارة عن مواد العصر البرونزي الخام، مثل: النحاس، القصدير، العاج، الزجاج، ومواد أخرى حولت لدى وصولها إلى: أدوات، وأسلحة وأدوات زينة، وأدوات منزلية. إن لوحات القبور المصرية تصور مثل تلك المواد بين أيدي تجار كنعانيين (سوريين) يسلمونها للفراعنة، لكن السلع نفسها نادراً ما وجدت، وكارثة تحطم هذه السفينة هي الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يحفظ هذه السلع بشكلها الأصلي».

صادرات أوغاريتية

لقد تم استخراج آلاف السبائك البرونزية من السفينة، إضافة إلى لقى متنوعة مثل السيوف والخناجر والجرار الفخارية المتنوعة المصادر، أوغاريتية ومصرية وفلسطينية ومسينية، والنقود والأختام وقطع الذهب، الأمر الذي يوضح عالم التجارة الذي كانت تتعامل معه "أوغاريت" في تلك الأيام، وهو عالم يتسع ليشمل نصف البحر المتوسط إن لم يكن أكثر.

سجلت الوثائق الملكية المقدر عددها بأكثر من ألف وثيقة، كما تقول الباحثة "ليزا كولي" في كتابها "النشاط التجاري في العصر البرونزي" (جامعة أريزونا، 2004)، النشاطات التجارية للملك ولحاشيته والمقربين منه، مؤرخة بين القرنين الثالث عشر والرابع عشر ق.م، كذلك تم العثور في منزل "أورتينو" الواقع في الحي الراقي داخل المدينة (وخارج الأسوار في مينة البيضا أيضاً) على أرشيف خاص مكون من مجموعة وثائق تجارية تدل على حجم تجارته الكبير عبر المتوسط، مع أشخاص مهمين من التجار والسياسيين، إضافة إلى أجزاء من عربات نقل وأختام أسطوانية مصدرها "قبرص" و"كريت"، و"أورتينو" في حد ذاته كشخص ينتمي إلى جماعة البحارة وتسمى "ماريانو"، وهذه الجماعة كانت جزءاً من طبقة النبلاء في المدينة ممن هم على علاقة مباشرة مع الملك، ويلاحظ أن كلمة "ماريانو" متشابهة مع كلمة "بحري" أو من يعمل في شؤون البحر بلغات الغرب (Maritime).

السبائك البرونزية المصدرة

من الوثائق المهمة التي عثر عليها الوثيقة RS 1957.701 (الحرفان RS هما حرفا رأس شمرا)، وهي من الوثائق التي يذكر وجهها الأول عدداً من المدن الكنعانية الفلسطينية، وحسب الباحثة "كريستين هيس" من جامعة "أبسالا" فإن هذه الوثيقة "واحدة من عدد قليل من النصوص التي تذكر المدن الفلسطينية، فقد ذكر فيه تبادل سبع "وزنات" (مكاييل غير معروفة الوزن الدقيق) من الشعير مع "وزنة" واحدة من مدينة "أشدود"، وفي نفس النص كذلك يتم تبادل خمس وزنات من الشعير مع واحدة من "أوغاريت".

ذكرت الوثائق أيضاً أصنافاً لأكثر من 350 نوعاً من المواد المتاجر بها مع أنحاء المتوسط، ومع أسطول يقدر عدده حسب الباحث "غسان القيم" مدير موقع "أوغاريت" الأثري سابقاً بأكثر من 150 سفينة ورد تعداد أسمائها في الحوليات الأوغاريتية، يقول الباحث "القيم": "من البضائع التجارية المتداولة براً وبحراً النحاس والقصدير والخشب والحبوب والصوف المصبوغ وزيت الزيتون، إضافةً للمنتجات المصنعة محلياً مثل الأقمشة والأدوات البرونزية، وزينة الرفاهية المصنوعة من المعادن والخشبيات الثمينة، والعاج إضافة إلى أدوات التجميل كالمراهم والمساحيق المختلفة والأعشاب الطبية".

نقش لسفينة أوغاريتية

ومما ذكره الباحث "القيم" أيضاً، أنه ورد في الأرشيف الملكي معلومات عن وجود شركات تجارية بحرية خاصة، تتاجر عبر المتوسط، ومنها وثيقة تتحدث عن إحدى الشركات الخاصة باسم (هور بور) امتلكت أسطولاً تجارياً ضخماً، وقد كانت التجارة الخارجية تتم عبر مبعوثين ملكيين في الخارج، حيث يبرمون الصفقات التجارية في قبرص أو بلاد الأناضول أو مصر على سبيل المثال، أو عبر شركات تجارية خاصة، وقد كان (سينارانو) أحد أغنى هؤلاء التجار الذين تمتعوا بعلاقة جيدة مع القصر الملكي والطبقة الحاكمة".

لقد كان موقع "أوغاريت" البحري على ساحل المتوسط عنصراً مهماً في بنائها لشبكة علاقات تجارية واسعة، بحرية وبرية، امتدت براً إلى مصر جنوباً وشرقاً إلى "إيمار" وفق بعض الدراسات الأكادية الحديثة، كذلك شمالاً وغرباً إلى "قبرص" و"إيطاليا" حتى، وتُظهر المقارنة بين الفخار القبرصي وفخار "مينة البيضا" -مرفأ أوغاريت الرئيس- العلاقة الوطيدة بين المنطقتين، فقد عثر في كل منهما على فخار من البلد الآخر.