في ذهنية الشرق العربي لم يكن الموت نهاية الوجود، بل كان طريقاً مؤقتاً نحو الخلود الأبدي، وفي "أوغاريت" تتضح هذه الذهنية في طرائق الدفن وبناء المدافن، والتقدمات للمتوفى، وحتى في الأناشيد الدينية المرافقة.

اكتشف في "أوغاريت" العديد من المدافن التي تخص ملوكها وكبار قادتها وشخصياتها المهمة، ومن أشهرها مدفني "ربانو" و"أورتينو"، كذلك مدافن أخرى تخص الرعية بمختلف مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية، وقد كشفت التنقيبات الأخيرة في المدينة عن وجود عدد من المدافن تحت البيوت بالنسبة إلى الناس العاديين، اكتشف آخرها في منطقة التوسع السكني للمدينة بالقرب من البوابة الرئيسية، في حين أن المدافن الملكية بنيت في المنطقة الشمالية الغربية للمدينة بعيداً عن القصر الملكي.

إذ لا بد من الانحناء عند الدخول إلى مكان مقدس كهذا

في جولة لمدونة وطن “eSyria” إلى "أوغاريت" بتاريخ 26 نيسان 2014، زارت أحد المدافن الأوغاريتية في الجزء الجنوبي الغربي للمدينة، أقرب إلى بوابتها الرئيسية، ضمن المكتشفات الأثرية الجديدة، حيث اكتشف مدفن في منزل أحد سكان المدينة المهمين ما زال محافظاً على وضعه، يتم النزول إليه عبر درج مؤلف من سبع درجات (وللرقم سبعة أهميته الكبرى في ثقافة الشرق العربي).

مدخل المدفن

فما إن يتوفى الأوغاريتي حتى تبدأ المراسم والاحتفالات الخاصة بالموت، وكما يحدث اليوم في الشرق العربي؛ وبآلية متطابقة تحدث عنها الباحث "أ. شيفمان" في كتابه "ثقافة أوغاريت" قائلاً: «كان البكاء يبدأ عادة عند فراش المحتضر، ثم البكاء في الحقل والبيت حيث الدفن، ويستمر البكاء سبعة أيام (كما هو حال التعازي الراهنة في الساحل السوري ـ ملاحظة كاتب المقال)، ومن حيث الشكل كان البكاء عبارة عن نص من الصلاة الشعرية، وإذا كان المتوفى من عائلة غنية، تقوم العائلة باستئجار نوّاحين محترفين (كذلك تستمر هذه العادة إلى اليوم، ولكن بشكل مختلف فيتم استئجار قراء للقرآن أو الإنجيل)، وقد ذكر النواحون والنواحات في ملحمتي "قرت" و"أكخيت"».

فإذا كانت عائلة المتوفى مهمة وميسورة، فإن المدفن يكون عادة ضمن تقسيمات البيت نفسه، إلى جوار بئر الماء والمطبخ وتنور الخبز، أو تحت إحدى غرف البيت، وفي حال كانت من العائلات غير الميسورة، فإن الدفن يكون على الأرجح في مقبرة خارج المدينة، يتوقع الخبراء أن تكون في القسم الشمالي للمدينة، كما يقول "كلود شيفر" في كتابه " CUNEIFORM TEXTS OF RAS SHAMRA-UGARIT "، مع ما يمكن للأسرة تقديمه للراحل في رحلته إلى الآخرة.

القبة المثلثة مع نوافذ التقدمات

تم بناء المدفن الأوغاريتي بطريقة مبتكرة، تحدث عنها الباحث "سجيع قرقماز" في مقال له بجريدة "الثورة" المحلية بقوله: «يتم بناء القبر الأوغاريتي برفع جدرانه من كل الجهات تدريجياً حتى الوصول إلى السقف، وهنا نجد الحل المبتكر، فيضع المعماري حجراً من الأعلى، تتثبت عليه الجدران الأخرى من الجانبين ليثبت هذا الحجر كل الجدران، ويجمعها إلى بعضها بعضاً، وسنأخذ بالاعتبار أن هذه الطريقة استخدمت في وقتٍ اعتمد فيه المعماري على الحجر فقط، دون حديدٍ أو إسمنت‏».

"اللافت أن عدد أحجار القفل هي (سبعة أحجار) تظهر عريضة وكبيرة من الخارج، وصغيرةً من الداخل، وهي لم توضع جزافاً، بل هي تعبيرٌ عن رحيل الإنسان بعد أن وصل إلى الموت -المرحلة السابعة من حياته- بعد الحمل، الولادة، الطفولة، الشباب، الرجولة، الكهولة".

مقطع كامل للمدفن

نجد بعد الدرج فوراً البوابة الحجرية، وهي أقل من ارتفاع القامة البشرية عادةً، «إذ لا بد من الانحناء عند الدخول إلى مكان مقدس كهذا»، تقول مرافقتنا في الرحلة الآنسة "ابتسام فرحات"، وهي مدرسة وأمينة مكتبة مهتمة بأوغاريت: «فالأوغاريتيون كان يجلون موتاهم ويرغبون دوماً بوجودهم في مكان قريب منهم، ولم يكن الأمر، حسب اعتقادي، يتعلق بعبادة الأسلاف، بقدر ما هو شعور بالتضامن والاستمرارية بين البشر الراحلين والأحياء على حد سواء، فالموت عند الأوغاريتيين كان "معبراً" إلى حياة أخرى، يمكن ملاحظة ذلك من الطريقة التي كانوا يدفنون بها موتاهم، إذ إن غالبية الهياكل المكتشفة كانت بوضعية القرفصاء، أقرب إلى وضعية "الجري"، بمعنى أن المتوفى حال إغلاق القبر سوف يجري راكضاً إلى العالم الآخر». وهذا التحليل ذكره الباحث "قرقماز" أيضاً.

في داخل القبر، المدفن، نجد مجموعة من الكوى المتروكة في الجدران، غاية وجودها، وضع التقدمات التي سيحملها المتوفى معه إلى العالم الآخر، وهي تختلف قيمةً ونوعاً حسب شخصية المتوفى، وقد تواجدت عدة أغراض للتقدمة منها الكؤوس، والعقود التزيينية، وبعض الجرار التي يبدو أنها احتوت نبيذاً، أو مياهاً، ويذكر "شيفر" أن عدة جرار تواجدت قريبة من رأس المتوفى لكي يستخدمها مباشرة فور "استيقاظه" إلى رحلته صوب الآخرة، وقد بنيت هذه الكوى في بعض المدافن بمواجهة رأس المتوفى وبجواره، وبعض التقدمات كانت من أساس المدفن وملتصقة بحيطانه.

يذكر العديد من الباحثين، أن ديانة "أوغاريت" كانت توحيدية في مجملها فقد كان الإله (إيل) الكلي القدرة، سيد مجمع الأرباب في المدينة، إلى جوار وجود آلهة محلية أخرى لها أيضاً حضورها ومعابدها، فحرية التدين والعبادة كانت مكفولة في المدينة، بدليل ورود عبارة في إحدى أساطيرها تقول: "لا تشتم إلهاً لا تعبده"، وقد عثر في المدينة على معابد متعددة، أهمها معبد "دجن" إله الحبوب والحصاد (والكلمة إلى اليوم مستخدمة في الساحل بمعنى الخبز)، ويقع شمالي المدينة ولا تزال بقايا آثاره موجودة إلى اليوم، ومعبد (بعل) الذي يظهر اسمه كثيراً في أساطير المدينة، ويلعب دوراً رئيسياً في مجمعها الديني كإله للعواصف والمطر.

لقد اهتمت الميثولوجيا الأوغاريتية بقضية الموت والبعث من جديد اهتماماً كبيراً، خاصة مع اعتبارها من ديانات "الخصب" الكبرى، يتضح ذلك جلياً في أسطورة (بعل و"موت")، و(بعل و"يم")، وفي إحدى أجمل قصصها (أقهات بن دانئيل)، إضافة إلى الترانيم الدينية للكهنة التي نقلتها لنا مكتبات "أوغاريت" الكثيرة، يذكر ذلك الباحث "موسى ديب الخوري" في كتابه "أوغاريت، حضارة الأبجدية الأولى".

من الضروري الإشارة إلى أن المدفن كان عائلياً، أي يتم دفن كل أفراد العائلة فيه، وهي طريقة مشتركة بين مختلف شعوب الشرق، وصلت إلى الرومان كما يبدو، وهو ما يؤكد أهمية العائلة كوحدة اجتماعية في ثقافة الشرق العربي، ولم يكن الأوغاريتيون يتفاجؤون بوجود هياكل للمتوفى في المدفن، فالروح هي التي تذهب إلى العالم الآخر، وقد كانت التساؤلات عن هذا موضع اهتمام أوغاريتي، كما نقرأ في هذه الترنيمة التي اكتشفت في مكتبة الحي الجنوبي للمدينة، تقول كلماتها (الترجمة للباحث "قاسم الشواف"):

"أين هم الملوك؟ ملوك الزمن القديم العظام؟

لم تعد النساء تحبل بمثلهم

لم تعد النساء تلد مثلهم

كم هي بعيدة السماء؟ اليد لا تعرف ذلك

كم هي عميقة الأرض؟ ما من أحد يعلم ذلك

ما يفعله البشر، هم أنفسهم لا يعرفون ذلك

معنى أيامهم، ولياليهم

هو بيد الآلهة".

مصادر مساعدة:

[1] - قاسم الشواف، "أخبار وموسيقا من أوغاريت"، دار طلاس، الطبعة الأولى، 1999.

[2] - موسى ديب الخوري، "أوغاريت، حضارة الأبجدية الأولى"، وزارة الثقافة السورية،2011.

[3] - أ. شيفمان، "ثقافة أوغاريت"، دار الأبجدية للنشر، الطبعة الأولى،1988.

[4] - كلود شيفر، "CUNEIFORM TEXTS OF RAS SHAMRA-UGARIT"، الأكاديمية البريطانية، طبعة عام 1939.