رُقُم ألفبائية ونقوش الأحرف الأوغاريتية الثلاثين، ألواح طينية وكتابات مسمارية، قاعات محفوظات وعبارات تشجيعية للطلاب.. شكل التاريخ المحفوظ في المتاحف عن التعليم في "أوغاريت"...

من بين مجموعة الرُّقم التي تواجدت في "أوغاريت"، هناك رقيمٌ يحمل فقط الأحرف الستة الأولى من الأبجدية الشهيرة، وهو على ما يبدو وظيفة لطالب لم يكمّلها لسبب أو لآخر، ولكن اللافت للانتباه أنه لم يكن الوحيد من نوعه، فهذه الوظيفة غير المكتملة، كانت مثار دراسات عديدة، تساءلت ما إذا كانت "أوغاريت" قد عرفت "المدارس" أسوةً بشقيقتيها السوريتين "ماري وإيبلا"، اللتان عرفتا المدارس بالمعنى الحقيقي للكلمة، وبنفس الدور الذي نعرفه اليوم. إذاً، السؤال هو: هل كان هناك نظام تدريس، ومن ثم مدارس، في المدينة التي مازالت حتى اليوم تذهل علماء الآثار بكنوزها، خاصة تلك المدفونة في ثنايا وثائقها الكتابية التي بلغ عددها ما بين رقيّم صحيح ومكسر أكثر من ألفي رقيم...

لقد كانت الأبجدية ثورة معرفية شهدتها البشرية بفضل أوغاريت، لذلك فالتعليم فيها كان ركناً أساسياً من حضارتها، وحياتها اليومية، والأبجدية هي أجمل الهدايا التي قدمتها "سورية"، خدمة للبشرية

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 18 شباط 2014 الباحث الدكتور "جمال حيدر" مدير آثار "اللاذقية"، ويقول: «تعدّ أبجدية أوغاريت، أقدم الأبجديات المعروفة في العالم، وبفضلها حلّ نظام الكتابة الأبجدي محل الأنظمة المقطعية الثقيلة (كما هي حتى الآن في اليابانية مثلاً) التي كانت سائدة قبل اختراعها، ويجب التمييز هنا بين اختراع الحروف واللغة، فاللغة موجودة من قبل وتكتب بأشكال مقطعية، أما أبجدية "أوغاريت" فقد اعتمدت في عبقريتها على الكتابة باستخدام الحروف».

أقلام استخدمت في أوغاريت من القصب

ويضيف: «لقد كانت الأبجدية ثورة معرفية شهدتها البشرية بفضل أوغاريت، لذلك فالتعليم فيها كان ركناً أساسياً من حضارتها، وحياتها اليومية، والأبجدية هي أجمل الهدايا التي قدمتها "سورية"، خدمة للبشرية».

أدت الوثائق الأثرية المكتشفة في المدينة إلى تأكيد وجود مدرسين يعلمون الطلاب حروف الأبجدية، ويعطونهم وظائف لكتابتها مرة واثنتين، فمن بين الرقم المكتشفة التي تم الاطلاع على محتوياتها، وجد اثنا عشر رقيماً، أطلق عليها اسم "رقم ألفبائية"، ويذكر الراحل "جبرائيل سعادة" في كتابه (أبحاث تاريخية وأثرية) سبب التسمية بقوله: «نطلق هذه التسمية على رقم فخارية صغيرة، نقشت عليها أحرف الأبجدية الأوغاريتية الثلاثون، وهي مرتبة بحسب التسلسل الذي كان معتمداً آنذاك، وقد تبين أنه باستثناء فروق طفيفة، هو ترتيب الأبجدية العربية، وترتيب الأبجدية اليونانية التي هي مصدر معظم أبجديات العالم، ولما كان هذا التسلسل يظهر في كل رقم الألفباء المكتشفة في الموقع، فهذا يدل على أن هذه الوثائق وضعت حتماً لغاية التعليم، فباستطاعة الطالب أن يحفظ عن ظهر قلب وبسهولة أكبر الأحرف الثلاثين إذ تعرض أمامه حسب تسلسل لا يتغير، وما يبعث حقاً على التأثر، أن نرى بأن الأطفال اليوم في عدد كبير من بلدان المعمورة يتعلمون استظهار الأبجدية، بالترتيب الذي كان طلاب أوغاريت يتعلمونه منذ أربعة وثلاثين قرناً».

الحروف الأوغاريتية والعربية

ويتابع "سعادة": «كان التعليم يتم في عدة أماكن ارتبطت كلها بالقصر الملكي، وهذه دلالة الأهمية الكبرى التي يوليها القصر للتعليم، لم تكن هذه الأماكن تشبه المدارس بالمعنى المعاصر، بل كانت تسمى "قاعة المحفوظات"، وقد تواجدت فيها الرقم المذكورة سابقاً، وكان الكاتب الأوغاريتي أو المعلم، يعمل إلى جوار وظيفته، بتعليم الأجيال الجديدة الكتابة بالحرف المسماري على ألواح الطين، فقد اكتشف رقيم نرى في قسمه العلوي أحرف الأبجدية الثلاثين مكتوبة بيد المعلم وموزعة على سطرين، في حين يوجد في القسم السفلي نفس العدد من الحروف مكتوبة بخط التلميذ وبشكل معكوس».

ويتضح من دراسة الخطوط التي كتبت الرقم الألفبائية بها، وهي محفوظة في متاحف "دمشق"، و"حلب"، و"اللوفر"، أن بعضها مكتوب بيدٍ خبيرة، في حين أن بعضها الآخر كتبته يدٌ مبتدئة، وتتيح هذه الرقم دراسة العلاقة بين الطالب ومعلمه، من بين هذه الرقم خمسةُ رقم نقشت عليها دون وجود أي نص آخر عليها كامل حروف الأبجدية ولمرة واحدة، فتلك التي نراها بخط جميل كانت نموذجاً أعده الكاتب للتداول بين الطلاب، أما تلك التي تبدو كتابتها غير جيدة فهي من صنع طلاب يبذلون جهدهم في نسخ الإشارات، وكثيراً ما تواجدت على هذه الرقم عبارات تشجيع من المعلم لطالبه، مثل عبارة: "فلتحفظك الآلهة وتنقذك"، أو: "لتحقق الآلهة أغلى أمانيك أخي وصديقي". ولعل هذه العبارات تعطينا فكرة عن العلاقة التي كانت تربطهما معاً، ويبدو أن هذه العلاقة لم تكن مبنية على القسر والإكراه، بل على المحبة، ولعل صعوبة الكتابة بقلم القصب على تلك الألواح قد خففت من العلاقة الرسمية بين الطالب ومعلمه.

من الرقم الألفبائية ـ خاص الموقع

ويذكر الباحث "كلود شيفر"، في كتابه (Cuneiform Ugarit -1939) أن الأقلام التي استخدمت في الكتابة على الألواح الطينية بالحرف المسماري، كانت لها أشكال عديدة، وكانت تصنع من القصب الذي ينمو على ضفاف نهري "شبيب" و"الدلبة" اللذين يحيطا بالمدينة، إضافة إلى صناعة بعضها من عظام الحيوانات.

أما طرائق التعليم آنذاك فهي تتشابه مع الطرائق المعاصرة، لجهة تعليم الطلاب الحروف أولاً، ثم المقاطع ثانياً، فعلى أحد الرقم الألفبائية، كما يذكر الراحل "سعادة"، كتبت أربعة حروف أوغاريتية تفصل بينها خطوط صغيرة عمودية، ثم نرى كلمة مركبة من تلك الحروف تحتها.

وتبرز أهمية "التعليم" في "أوغاريت"، في وصية تركها أحد الآباء على ما يبدو لمعلم ولده، على رقيم محفوظ حالياً في متحف "دمشق"، تقول هذه الوصية: (لا تظهر في عظمتك عدم الاهتمام بالقضية التي أستعطفك من أجلها، بهذا التلميذ الفتي الجالس أمامك لا تظهر عدم الاهتمام، اكشف له أي سر في فن الكتابة، العد، المحاسبة، أي حل، اكشف له، اكشف له إذن الكتابة السرية، أعط لهذا التلميذ الفتي، القصب المبري والجلد والفخار، إذاً لا تهمل شيئاً من كل ما يتصل بفن الكتابة). ‏

وتبقى إشارة، هي أن هذا المجتمع العظيم، علّم المرأة كما علّم الرجل، ويشير "أ. شيفمان" إلى وجود أختام لدى نساء أوغاريت، تختم بها المرأة على وثائق معاملاتها التجارية منها والحياتية، بما في ذلك حق تطليق نفسها من رجلها وقتما تشاء، مع ضمان كامل حقوقها.

المصادر:

[1]- جبرائيل سعادة، "الحياة الثقافية والتعليم في أوغاريت" ضمن كتاب "أبحاث تاريخية وأثرية"، دمشق 1987، ص 83ـ 116.‏

[2]- أ. شيفمان، مجتمع أوغاريت، التاريخ الاقتصادي والسياسي والبنية الاجتماعية، منشورات دار "الأبجدية الجديدة"، 1988.

[3]- جمال حسن حيدر، "أوغاريت"، التاريخ والآثار، دار المرساة، "سورية"، "اللاذقية"، 2002م.