يقع سوق المرايا في قلب مدينة "اللاذقية" القديمة، ويتجاوز عمره المئة عام، عمل فيه وما يزال خيرة الصناع والمهنيين الذين لم يتوقفوا عن اللحاق بآخر صيحات التقنية أيضاً.

يبدأ السوق من جوار كنيسة "القديس نيقولاوس" ذات الخمسمئة عام عمراً، وينتهي بالقرب من أعمدة أثرية كانت على ما يبدو جزءاً من مدخل معبد قديم، هذا الشارع المسمى شارع "العنابة" هو جزء أساسي من تاريخ المدينة، وفي ظل هذا التاريخ تتربع المرايا وهي تعكس وجوه العابرين وضحكاتهم وأحلامهم أيضاً.

كان الأقدمون يتعبون في إبراز الصورة الأجمل لمنتجهم بحكم كون الإنتاج فردياً في الأغلب، وقليل الانتشار إلا في أوساط علية القوم، اليوم كل بيت فيه مرايا وفيه زجاج، عدا أن الصناعة الخارجية المستوردة أثرت في صناعاتنا هذه

تعود صناعة المرايا في المدينة إلى مئات السنين، فهناك كما يقول المعلم الستيني "محمود الداية" في حديث مع مدونة وطن "eSyria"، بتاريخ 4 شباط 2015: هناك عدة عائلات مشهورة بالعمل في صناعة المرايا والزجاج، كعوائل "الداية، وخلاص، واسطنبلي" وغيرها. يضيف الحاج "الداية": «ورثت هذه المهنة عن أبي وجدي اللذين عملا في المهنة عقوداً طويلة، وأكملت مشوارهم أنا وأبنائي الذين يجمعون اليوم بين المهنة والعلم معاً، فهذه الصنعة جزء من تاريخنا، ومع اختلاف الزمان اختلفت طرائق العمل والأنواع والأشغال المرتبطة بالزجاج والمرايا، اليوم هناك نوعيات من الزجاج والمرايا بسماكات مختلفة وألوان وتعشيقات أكثر اتساعاً من أنواع الزمن القديم».

السيد محمود الداية

بقيت صناعة المرايا والزجاج في المدينة لكونها تمثل ليس فقط حاجة ضرورية بل لأنها ذات صبغة جمالية، ومع انتشار واجهات المرايا والزجاج المقسى انتعشت الصنعة مرة ثانية، يقول السيد "أحمد اسطنبلي" (52 عاماً) حفيد شيخ "الكار": «للمرايا القديمة حكاية تستحق أن تروى، كان يتم تصنيعها يدوياً، فيؤتى بلوح زجاج سادة ويغسل بماء مقطر، تذوّب "نترات الفضة" بالماء المقطر أيضاً ويضاف إليها "أسيد سيكلوريك"، كما تضاف أيضاً مواد أخرى وتوضع في إبريق نحاسي، في المرحلة الأولى نسكب محتويات الإبريق على محيط قطعة الزجاج السابقة والموضوعة على طاولة "مزيبقة"، وتترك لمدة ربع ساعة تقريباً مع التحريك والتهوية ويسمى هذا الوجه الأول؛ حيث يتحول لون الزجاج إلى اللون "الطحيني"، يجرى للوح عملية "قش"؛ وهي عملية إزالة الزوائد عن اللوح؛ حيث يتم توزيع المواد السابقة بالتساوي حيث تتناسب مع كل أبعاد اللوح، يعاد للوح وجه ثان بنفس الطريقة ويقش أيضاً، ويغسل بمياه مقطرة».

على وجه اللوح الثاني توضع طبقة من النحاس حماية للوح من الخدش؛ ويتألف هذا الوجه من خلطة زنك وجزازة وملح الليمون، ويطلى باستخدام إبريق له عينان حيث لا يجوز أن يختلط مع نترات الفضة المضافة، من ثم يغسل اللوح الذي أصبح مرآةً بمياه عادية أو يوضع في فرن لتنشيفه بضع دقائق، ثم يدهن باستخدام "البويا" حماية له من العوامل الجوية، يقول السيد "اسطنبلي".

السيد أحمد اسطنبلي في محله

اليوم هناك طيف واسع من المرايا التي تصنع أوتوماتيكياً عبر خطوط إنتاج كاملة سبق تواجدها في مدينة "حلب" للمرة الأولى قبل أن تنتقل إلى بقية المحافظات ومنها "اللاذقية"، يتحدث السيد "أحمد دليواتي" وهو صناعي من "حلب"، يعمل حالياً في سوق المرايا: «كانت المرايا في "اللاذقية" تتبع نمطاً صناعياً تقليدياً، حيث إن أغلب الزجاج الذي يطلبه الزبائن يحتاج إلى وقت لا بأس به حتى يتم تسليمه للزبون، فالتقنيات هنا غائبة، إلا أن الصورة تغيرت اليوم مع انتشار مكنات لف الحرف (أطراف الألواح) وتنعيمها كما هو مطلوب، فاليوم مثلاً مع تواجد معامل للشطف يكون الإنتاج اليومي حوالي 1500 متر مقدماً بسرعة وجودة إنتاج ونوعية عالية المستوى، ومع انتشار واجهات الزجاج في المدن أصبح هناك ثقافة تهتم بجمالية الزجاج والنوعية التي يستهلكها الزبون».

مقارنة الإنتاج الراهن مع ما كان سابقاً يميل الكفة لمصلحة القديم، فقد كان هناك "تفنن" أكثر في تلك الصناعة، خاصة المرايا، يضيف السيد "الداية" بقوله: «كان الأقدمون يتعبون في إبراز الصورة الأجمل لمنتجهم بحكم كون الإنتاج فردياً في الأغلب، وقليل الانتشار إلا في أوساط علية القوم، اليوم كل بيت فيه مرايا وفيه زجاج، عدا أن الصناعة الخارجية المستوردة أثرت في صناعاتنا هذه».

من سوق المرايا

تبقى لكل مرآة حكايتها في سوق المرايا حتى اليوم، فزخارفها توضع بناء على رغبات الزبون، فهذا يحب إطاراً مزخرفاً بالورد وذاك بالزجاج الملون وذاك بالخط العربي، واليوم يمكن لأي شخص انتقاء ما يريد ما أن يزور سوق "المرايا".