قبل قرابة 300 عام انطلق رجل من "القرداحة" واتجه نحو الجنوب ليحط رحاله في أعالي جبال الساحل السوري بريف "جبلة" ويؤسس أبناؤه من بعده قرية عرفت باسم "بطموش".

الرجل الذي يدعى "حسون" وهو اليوم جد "بطموش" مر في رحلته بقرية "بيت عانا" وأمضى فيها مدة من الزمن قبل أن ينتقل إلى قرية "بورجيلة" ويستقر فيها ويدفن فيها، والكلام هنا للمختار "محمد يوسف" الذي أضاف في حديثه لمدونة وطن "eSyria" في 20 تشرين الثاني 2014: «هذا ما رواه لنا أجدادنا، فجدنا لم يسكن القرية ولم يمت فيها، وإنما حفيداه "محمد وخلوف"، هما من جاءا وأقاما في "بطموش" وكانت حينها عبارة عن غابة كبيرة، حيث سكنا إلى جانب مقام للملك "جعفر الطيار"، ومن هناك بدأت تتكون القرية حتى أخذت صورتها الحالية».

سبب ذلك مرده إلى أننا قرية بلا "ينابيع"، وبالتالي لا مياه في القرية إلا مياه الأمطار والثلوج التي لم تبخل السماء علينا بها يوماً

"بطموش" القديمة أو الجميلة كما يحب الأهالي تسميتها مازالت واضحة المعالم حيث البيوت الترابية المتشابكة مع بعضها بعضاً، التي تحولت إلى أراضٍ زراعية تحيط بها جدران البيوت التي تحولت إلى حدود بين الأراضي، كما تبين ذلك الصور.

مختار بطموش

الذي ميز هذه القرية الريفية عن غيرها من القرى أن أجدادها لم يسكنوا بالقرب من الينابيع أو مجاري الأنهار كما جرت العادة، يقول المختار "يوسف": «سبب ذلك مرده إلى أننا قرية بلا "ينابيع"، وبالتالي لا مياه في القرية إلا مياه الأمطار والثلوج التي لم تبخل السماء علينا بها يوماً».

غياب الينابيع عن القرية دفع الأهالي للذهاب إليها لقضاء حوائجهم والتزود بالمياه منها، ويقول "يوسف": «في طفولتي كانت والدتي تأخذني مع بعض الأوعية عبر الوادي إلى نبع (التحتيني) الواقع غرب القرية بالقرب من حدود قرية "خرائب سالم"، حيث كنت أستحم هناك ونغسل ثيابنا ونملأ الأوعية ونعود كما ذهبنا».

بيت قديم بات أرضاً زراعية

تعد "بطموش" من القرى التي مازالت تحافظ على ريفيتها حتى الآن؛ حيث يعتمد أهلها على الزراعة وتربية المواشي، ويقول مدير المدرسة "علي صقر": «لقد تأقلمنا مع بيئتنا القاسية وابتدعنا الحلول لمواجهة الواقع معتمدين على سواعدنا التي حولت الصخور إلى آبار وأراضٍ زراعية، حيث اختصينا بزراعة ما يلائم منطقتنا من الزراعات فكان اعتمادنا على القمح بوجه أساسي وكذلك التبغ الذي اشتهرت به القرية، واخترنا من المواشي ما يمكنه تحمّل البيئة ويمكننا تأمين غذاء ومراعٍ له فكان خيارنا "الماعز"».

ويضيف "صقر": «يوجد في القرية حالياً قرابة "5000" رأس ماعز، ولا يوجد منزل في القرية من دون مواشي، نخرج بها للرعي على أطراف القرية ونسقيها من الينابيع البعيدة والخزانات التي نملؤها من مياه الأمطار شتاءً، وهي (أي الماعز) تؤمّن دخلاً جيداً لأبناء القرية حيث يباع حليبها خارجاً، وحتى أراضيها يملؤها الماعز بالسماد العضوي الذي يعود عليها بالفائدة الكبيرة زراعياً».

موقع "بطموش" على خارطة "غوغل"

لا تقتصر الثروة الحيوانية في القرية على الماعز حيث يوجد أيضاً أكثر من "40" بقرة، وقد أبدع الأهالي استثمار الثروة الحيوانية واشتهروا بـ"الشنكليش"؛ حيث يقصد الناس القرية من مسافات بعيدة لشرائه، حتى التبغ كما هو حال السيد "علي عباس" الذي صادفناه قادماً من قرية "المكسحة" لشراء هذه المنتجات، وقد أشاد بتميزها ولذة طعمها.

يعيش في القرية التي ترتفع عن سطح البحر أكثر من 1050 متراً حوالي 1000 نسمة فقط؛ وهم متمسكون بالحياة الريفية على أصولها، يقول "صقر": «الجميع هنا يعملون في الأرض نساءً ورجالاً كل له دوره، وجميعهم متمسكون بطقوس الحياة الريفية الأصيلة، حيث مازلنا إلى الآن نأكل جميعاً من خبز التنور، فكل بيت يوجد فيه "تنور" أو كل تجمع بيوت، حيث تخبز النساء وتطعم أفراد العائلة منه».

العادات الريفية وفي مقدمتها الكرم متجذرة في هذه القرية يقول "علي عباس": «كلما قصدتهم فرشوا لك مائدة طعام شهي من منتجاتهم المحلية (الزبدة والجبنة واللبنة والخضراوات وخبز التنور)، لا يمكن أن تدخل بيوتهم وتخرج من دون أن تأكل وتشرب من عندهم، إنهم متمسكون بالكرم الريفي، هذا الكرم الذي لا يعلى عليه».

"بطموش" التي تبتعد عن مدينة "جبلة" قرابة 40كم، تنتج سنوياً قرابة 3طن من القمح، بحسب المختار الذي يضيف: «لدينا اكتفاء ذاتي من معظم الاحتياجات بما في ذلك القمح الذي نحفظه في خزانات وبراميل و"شوالات" مخصصة لذلك، كما أننا نزود الدولة منه كلما احتاجت».

العلاقات الاجتماعية وطيدة جداً في القرية التي تشتهر بتعاونها حتى الآن، ويقول مختار قرية معرين "آصف زهرة" معلقاً على ذلك: «تجدهم متعاونين في الزراعة والرعي وكل شيء، حتى في البناء تجدهم جميعاً يساعدون الشخص الذي يريد أن يبني وكله بالمجان، وحتى إذا احتاج أحدهم مساعدة يتعاون الجميع على تلبيتها له».

في عيد الفطر يجتمع أهل القرية معاً يقيمون الصلاة، ومن ثم يذبحون الذبائح ويضعون ثلث نتاج القرية في خدمة الأعمال الخيرية بحسب مدير المدرسة "علي صقر".

ويضيف "صقر": «تعود تسمية "بطموش" لأبجدية أوغاريت فحرف الباء فيها آتٍ من كلمة "بيت"، وكلمة "طموش" تعني الأرض الخصبة، أي إنها "الأرض الخصبة"، وهناك رواية أخرى تقول إن للتسمية جذراً سريانياً ويعني "المدفن أو المغارة"، والقرية تشتهر بكثرة النواغيص وهي قبور حجرية قديمة».

يذكر أن، قرية "بطموش" تعد آخر قرية في محافظة "اللاذقية"، وتأتي بعدها من جهة الشرق محافظة "حماة"، ومن جهة الجنوب محافظة "طرطوس"، وهي نقطة التقاء المحافظات الثلاث.