في ريف جبلة، للطيور بستان اسمه "بسطوير"؛ وللإنكليز حصة فيه بلغتهم "best were"؛ "المكان الأرحب"، فيما تعني عند السريان "السطر"، وهي بحق أشبه بسطرٍ نُقِشت عليه قصص وحكايات عن حضارات مرت من هنا، كما أنها القرية الجميلة الرحبة، إضافة لكونها بستان الكرمة والتين الذي سرحت الطيور فيه ومرحت.

مدونة وطن "eSyria" زارت "بسطوير" بتاريخ 27 تموز 2014، والتقت "عبد الإله الصالح" مدير مدرستها ليحدثنا عنها، يقول: «هي قرية في ريف "جبلة"، ترتفع عن سطح البحر أكثر من ألف متر؛ وتبعد عن مركز المدينة قرابة 30كم، ويسكنها العشرات من العائلات التي تأقلمت مع بيئتها المناخية القاسية جداً وصعوبة الحياة فيها، وتعد من أكبر القرى في محيطها وحتى في كامل ريف "جبلة"، وهي تمتد على مسافة تصل إلى 7كم؛ وهي مسافة كبيرة، إضافة لمساحتها الجغرافية التي تصل إلى قرابة 75كم مربعاً».

في السابق احتضنت القرية مجموعة من "رامات" الماء، فكان هنالك "رامة" في كل حي يستحم بها الأهالي ويغسلون ثيابهم ويسقون الزرع منها أيضاً، وقد عمد الأهالي إلى تنظيم دور فيما بينهم ينظم عملية الاستخدام، كل يوم لعائلة أو أكثر

ويضيف "صالح": «يعود نسب أهالي "بسطوير" للشيخ "علي الخياط"، وهو شيخ جليل القدر، يقال شعبياً إنه جاء إلى هنا قادماً من اليمن في القرن الحادي عشر، وقد طاب له البقاء في "بسطوير"؛ حيث عاش وتوفّي ودفن فيها مع نجله، ويعتقد أهل المنطقة أن مرقده محاط بهالة من القداسة، ويعتبرونه مزاراً للناس، وقد سكن الشيخ "علي الخياط" في وسط "بسطوير" حيث اختار مكاناً رحباً ودافئاً بعض الشيء، فأسس القرية مع أفراد عائلته الذين توارثوا الحياة فيها منذ تسعة قرون تقريباً، وأقاموا في بيوت طينية ذات سقف واحد ممتد على مساحتهم كاملة، ومازالت بقايا هذه البيوت موجودة في القرية شرقيَّ المقام عن جنوب الطريق العام، وقبل حوالي 50 عاماً؛ غادر الأهالي بيتهم ذا السقف الواحد ليعيشوا في بيوت متناثرة على طول وعرض القرية، فقد كانت البيوت المتلاصقة وسيلتهم للحماية من الوحوش والغزو وما إلى ذلك، ومع تطور وسائل الحياة وأدواتها، تمكنوا من الاستغناء عن هذه البيوت والانتقال للعيش في بيوت حجرية؛ حيث عاشت كل عائلة في منزل ضمن الأرض التي تملكها على طول وعرض القرية، وهذا ما يفسر التباعد في البيوت واتساع مساحة السكن في القرية».

الجزء الشرقي للقرية

القرية الجبلية المرتفعة عمرها أكثر من تسعة قرون؛ حيث هناك دلالات تجذرها في التاريخ، يتابع "صالح": «في البداية سكنها اليونان، فقد عثر على لقى يونانية فيها، وكذلك سكنها الرومان؛ ففيها عين ماء اسمها "عين الروم"، إضافة لعملات رومانية وجدها الفلاحون سابقاً، يضاف إلى ذلك وجود "النواغيص"* التي تشير الدلائل إلى أنها بيزنطية، لكن على ما يبدو أن الصليبيين تركوا آثارهم على "النواغيص" عندما عاشوا في "بسطوير" حيث نحتوا الصلبان على مداخلها.

استفادت "بسطوير" من إرثها الديني، إذ انتشر الخطباء فيها ولعبوا دور المعلمين للناس، وكان الأهالي جميعاً يتقنون قراءة القرآن الكريم وترتيله بطريقة جيدة، وقد بنى الشيخ "حسن ميهوب حرفوش" من قرية "المقرمدة" مدرسة "بسطوير" القديمة في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وكان موقعها في الطابق السفلي لمسجد القرية، ومن بعدها انتقل مكانها إلى موقع آخر قبل أن تبني الدولة المدرسة الحالية في منتصف الثمانينيات، وهي مدرسة ابتدائية فقط».

وسط القرية حيث البلوطة العملاقة

ويضيف "صالح": «في المراحل العلمية المتقدمة (إعدادية، ثانوية)؛ كنا نعتمد على قرية "جيبول" التي تبعد عنا بضعة كيلومترات، فكنا نذهب إليها على الأقدام رغم الثلوج والأمطار الغزيرة، وقد كان هناك إقبال كبير من قبل الأهالي على العلم الذي كنا ننظر إليه على أنه المنقذ من واقع حياتنا القاسي والصعب، فالناس هنا كانوا تواقين للمدنية، وقد انساقوا نحوها بسرعة حتى أصبحت القرية في أدنى مستوياتها من حيث نسبة المقيمين فيها».

تميزت "بسطوير" عبر تاريخها، إلى جانب كروم التين والعنب، بزراعة التبغ؛ إذ كانت وما زالت من القرى المصدرة له، وتقول "فاطمة محمد"، من قرية مجاورة، إنها كانت تأتي إلى "بسطوير" لشراء "شتول التبغ" منها قبل أكثر من 20 عاماً، وتضيف "محمد": «اشتهرت "بسطوير" بتبغها، وكان المدخنون يتهافتون على شرائه، حيث كان مزارعو التبغ يتبعون طريقة بسيطة في إنضاجه، فكانت تضفي عليه نكهة خاصة، إذ كانوا يعتمدون على الشمس والندى في إنضاجه، ومن ثم يتم كبسه في أكياس من الخيش ويصبح جاهزاً للكت (التقطيع) ومن ثم التدخين».

بسطوير

اشتهرت القرية الباردة شتاءً ببرك الماء فيها وهي تسمى "رامة"، حيث تتجمع المياه فيها خلال فترة الشتاء وتبقى إلى ما بعد الصيف، وتقول السيدة "سكينة عيسى" في لقاء جرى معها قبل 3 سنوات: «في السابق احتضنت القرية مجموعة من "رامات" الماء، فكان هنالك "رامة" في كل حي يستحم بها الأهالي ويغسلون ثيابهم ويسقون الزرع منها أيضاً، وقد عمد الأهالي إلى تنظيم دور فيما بينهم ينظم عملية الاستخدام، كل يوم لعائلة أو أكثر».

عرف عن أهالي القرية صيد "السمّن" ويتحدث "بديع إسماعيل" عن آلياته قائلاً: «هذا العصفور كان منتشراً بكثافة في القرية، حيث كنا ومازلنا نعتبره غذاءً شهياً لنا، ونمضي ساعات في صيده وفق طريق بسيطة؛ تعتمد على حفرة صغيرة في الثلج ومن فوقها حجرة مسطحة يتم تدعيمها من جهة واحدة بعودين من القصب لفسح مجال لدخول العصفور إليها، ويوضع في داخلها بعض حبات قمح، وعندما يصبح بداخلها تغلق عليه ويتحول إلى جزء من وجبة شهية بالنسبة لنا».

شهدت "بستان الطير" حالة اجتماعية مثالية على مر العصور السابقة، ويقول "عبد الإله صالح" أن الأهالي كانوا متعاونين في كل شيء، ويضرب مثلاً: «في بناء البيوت كان شبان القرية يجتمعون مع بعضهم بعضاً؛ ويبنون بيتاً للعريس وينتهون منه خلال 3 أيام، ومن ثم يبيّضونه له من الداخل مستخدمين تربة بيضاء من أرضنا، ومن ثم يزفونه عريساً، لقد كانوا يحضرون له كل شيء بما في ذلك "الصيبات"؛ وهي عبارة عن حفرة مدورة داخل المنزل وعميقة للأسفل بضعة سنتيمترات لكي يتم وضع الحطب بداخلها وإشعال النار، ويوضع فوقها قطعة حديد مستديرة مدعمة بثلاث قوائم، يتم تسخين الماء وطهو الطعام وما إلى ذلك بواسطتها».

جدير بالذكر، أن قرية "بسطوير" قدمت للرياضة السورية "عائلة معلا"؛ التي اشتهر أفرادها بالسباحة ولهم العديد من الإنجازات محلياً وخارجياً.

  • النواغيص: قبور قديمة تعود إلى العهد الفينيقي، وهي أشبه بكهوف كالبيوت ضمن الصخر، في زمن الثورة السورية الكبرى كانت معقلاً استخدمه الثوار لمحاربة الفرنسيين.