يضيع الزائر إلى قرية "بكسا" اليوم بين عمرانها الحديث وخضرتها المتسعة، وبين حداثتها وعراقتها الموغلة في قدم التاريخ، فهي أقدم من "أوغاريت" بآلاف السنين.

وحتى تصل إلى "بكسا" ليس عليك السؤال كثيراً، فإما أن تتجه من طريق "اللاذقية ـ كسب" الدولي عند منطقة "كرسانا" مفرق "القنجرة" ثم إلى القرية من طريق "القبو" القديم، أو أن تقصدها من طريق "مدينة اللاذقية ـ المشيرفة" الرئيسي فلا تبعد القرية عن مركز المدينة سوى ثمانية كيلومترات.

يكمل طلاب القرية دراستهم الثانوية إما في قرية "المشيرفة" القريبة أو في "جناتا" أو في المدينة، وتكاد تنعدم الأمية في القرية، فغالبية السكان حصلوا على تعليم أساسي باستثناء بعض كبار السن، وتعد مدرسة "بكسا" الإعدادية من المدارس القديمة في المنطقة فقد أنشئت منتصف الخمسينيات، ومن أبرز الشخصيات التي خرجت من "بكسا" الفنان السوري الكبير "أسعد فضة"

تتبع قرية بكسا" إدارياً إلى بلدة "القنجرة"، إحدى البلدات المستحدثة في "اللاذقية"، وتمتد فوق هضبة منبسطة متدرجة المستويات تضم إلى جانب "بكسا" قرى تجاورها شرقاً وشمالاً مثل "المشيرفة"، وتنتهي الهضبة بسهل منبسط يمتد حتى القرى المجاورة غرباً وجنوباً هي "القنجرة"، و"جناتا"، وترتفع الهضبة عن سطح البحر أكثر من مئة متر بقليل.

خريطة بكسا على جوجل إيرث

يتحدث المهندس "نزار رسلان" من سكان القرية عنها، فيقول في حديث لمدونة وطن “eSyria” بتاريخ 10 شباط 2014: «تتميز القرية بأن تربتها في أغلب سطحها بيضاء، أي إنها تربة غنية وصالحة للزراعة خاصة البعلية التي تعتمد مياه الأمطار، وهذا ما اكتشفه السكان مبكراً فغطيت الهضبة بأشجار الزيتون والحمضيات والفواكه الصيفية، مثل الرمان والتين والعنب والتوت.

أما الزراعة المروية فتعتمد على استجرار المياه من السد المجاور (سد القنجرة) وقد قام ببنائه الأهالي، فتزرع الخضار بأنواعها، وتبلغ مساحة القرية مع الأراضي المزروعة في محيطها مئة هكتار».

داخل القرية البناء الحديث

يبلغ عدد سكان القرية حسب إحصاءات عام 2010 نحو 8 آلاف نسمة يتوزعون على 1200 بيت تقريباً، إلا أن عدد السكان الحقيقي اليوم يتجاوز هذا الرقم بكثير بسبب النهضة العمرانية الكثيفة التي شهدتها المنطقة منذ سنوات، وتوافد العديد من السكان إليها نظراً لانخفاض أسعار العقارات مقارنة مع المدينة، إضافة إلى توافر مختلف أنواع الخدمات التي يحتاجها الناس، وقربها من المدينة.

وقد ضُمت القرية بعد عام 2012 إلى تجمع "جناتا" و"القنجرة"؛ لتشكيل بلدة من الدرجة الثالثة، حيث تم توفير مركز لصيانة الكهرباء وثلاث جمعيات فلاحية (واحدة لكل قرية)، ووحدة إرشادية وملعب كرة قدم وخدمات أخرى متصلة.

سد بكسا أو القنجرة

تتواجد في "بكسا" المدارس الابتدائية والإعدادية، يقول السيد "نبيل فضة" من سكان القرية: «يكمل طلاب القرية دراستهم الثانوية إما في قرية "المشيرفة" القريبة أو في "جناتا" أو في المدينة، وتكاد تنعدم الأمية في القرية، فغالبية السكان حصلوا على تعليم أساسي باستثناء بعض كبار السن، وتعد مدرسة "بكسا" الإعدادية من المدارس القديمة في المنطقة فقد أنشئت منتصف الخمسينيات، ومن أبرز الشخصيات التي خرجت من "بكسا" الفنان السوري الكبير "أسعد فضة"».

ذكرت "بكسا" في التاريخ كما يذكر الباحث "جمال حيدر" وآخرون باعتبارها أحد مراكز الاستيطان البشري الأول، فقد كشفت التنقيبات الأثرية التي أجرتها البعثتان السورية والفرنسية في ثمانينيات القرن الماضي في محيط القرية عن استخدام أدوات حجرية مصنوعة من الصوان بحجم قبضة اليد لها قبضة مستديرة وحدّان عاملان.

وتعد هذه الأدوات الأولى في الشرق العربي، وهي أدوات تشبه أدوات موقع "ستمرخو" المعروف عالمياً (ينسب لها في علم الإناسة ما يسمى "إنسان ستمرخو") ولكنها أكثر تطوراً، كما كشفت أن استيطان الإنسان القديم في هذه المنطقة بدأ منذ أكثر من 700 ألف عام، ويشير العالم الفرنسي "فرانسوا بورد" في كتابه "نمطية أدوات العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط" إلى أن الإنسان القديم عاش في كهوف قريبة من مصبات المياه والينابيع لحاجته الدائمة إلى المياه، ومنها "بكسا"، و"ستمرخو"، و"الهنادي"، و"الشير"، وغيرها.

أما معنى الاسم، فهناك روايتان تتقاطعان في أن حرف "الباء" في الكلمة من كلمة "بَـت" الآرامية التي تعني البيت أو المقام أو الهيكل، في حين يرى المطران "يعقوب منَّـا" في "القاموس الكلداني" أنها تعني "المحبرة" أو "الكأس" واللفظ يوناني، يرى "محمد جميل حطاب" أن لفظة "كسا" كنعانية الأصل وتعني بيت الكساء والحياكة، وهو الوجه الأقرب إلى الدقة باعتبار أن "بكسا" ذكرت في مراسلات أوغاريت بصفتها "مخازن للحبوب والكساء".

من أهم الأماكن السياحية في القرية بحيرتها التي تتوسط القرى الثلاث (بكسا، القنجرة، جناتا)، وهي من أهم البحيرات في المنطقة وتبلغ مساحتها ما يقارب عشرة هكتارات، وتتميز البحيرة بغزارة مياهها وإطلالتها الساحرة على مشهد أخضر يمتد حتى القرى المجاورة موزعاً على أشجار الحمضيات والفواكه حتى البحر، وقد أنشئت عام 1982، وتستفيد منها القرى الثلاث في سقاية المزروعات والري وصيد السمك، كما أقيمت على ضفافها مطاعم ومتنزهات شعبية كثيرة، تساهم في الحياة الاقتصادية والاجتماعية لكامل المنطقة.