على بيادرِ القرية وبعدَ موسمِ الحصاد، كان يجتمعُ الشباب والرجال للعب "التكرعة" التراثية الشعبية التي تعتمدُ على أدواتٍ بسيطةٍ مؤلفة من ثمرةِ الصنوبر وعصا خيزران، أو أيّ نوعٍ آخر من الخشب، وتعمل على رفع روح الحماسة والتحدي بين اللاعبين.

مدوّنةُ وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 30 أيلول 2019 مع الباحث التراثي "حيدر نعيسة" للحديث عن لعبة "التكرعة" الشعبية القديمة، فقال: «تعدّ هذه اللعبة من الألعاب الشعبية التي كان الآباء والأجداد يمارسونها في سائر الأوقات والأماكن المتاحة، حيث البيادر وساحات القرى والمروج والأراضي السهلية، ولا سيّما بعد الحصاد، حيثُ تتسعُ المساحات أكثر، وهذه اللعبة لم يكن لها وقتٌ محدد فقد تستمر لساعات، وينبغي أن يكون الملعب دائرياً بقطر 100 متر، وتحفرُ في وسط الدائرة حفرة في التراب، أو تنقر في الصخر تُسمى (الأمّ، والإمّايّة بالعامية، أو البيش)».

عمر الإنسان مهما دام صدق ما هو إلا أحلام فكري أعطي مشروحات عن عمري وماضي الأيام كنت تولد سبع سنين عند الخطيب اتعلم قرينا حتى ختمنا الربع وكملنا حفظ الأنعام وقت ال نطلع ع البرية متل الغزلان نتزاحم ننصب لعب التكريعيا ونلعب قبة الحمام

وأضاف عن أدوات اللعبة بالقول: «كانت أدوات اللعبة عبارة عن ثمرة صنوبر مقطوعة الرأس تُسمى "التكرعة"، وعصا معقوفة النهاية على شكل حرف اللام بالعربية، يبلغ طولها قرابة 125 سم، وهذه العصا تصنع من الخيزران أو الخشب الخفيف المتاح المتوافر في المنطقة من السنديان والحور والصفصاف، ويجب أن يمتلك كل لاعب عصا، فقد كانت العصا من مستلزماته كما الربابة من مستلزمات الراعي لتعدد استعمالاتها، حيث انتشرت اللعبة في كل الأرياف وأحياء المدن الشعبية، ولفظتها غير عربية قد تكون لها أصول تركية وشاعت بأسماء "التكرعة"، و"التكروعة"، أو "التكريعة"».

الاستعداد للبدء باللعبة

كما تشبه "التكرعة" لعبة "الغولف"، ويسودها الجوّ الحماسي بين الفريقين، وتختلف قوانين اللعب بها، وهنا تحدث الباحث "حيدر نعيسة" قائلاً: «يتمّ تقاذف الكرة من نقطة (الأمّ)، وتبدأ اللعبة بين الفريقين لإعادتها إلى التكرعة، ويبدأ الحماس وتعلو الأصوات بين الفريقين، ويفوز من يستطيع إنزال الكرة بالحفرة، وهي شبيهة بالألعاب الغربية كلعبة الغولف، لكنها جماعية بعكس لعبة الغولف الفردية التي تبدأ من بعيد وتنتهي عند الحفرة، بينما التكرعة تبدأ من عند الحفرة.

لا تقتصر على عمر معين، ولها أشكال وقوانين متعددة، حيث تُسمى في "الجزيرة" السورية "بمّك"، وتقوم على مبدأ شخص واحد يدافع ويلعب ضد مجموعة يحمي الكرة، والآخرون يحاولون إنزالها بالحفرة».

حيدر نعيسة

وعن فوائد اللعبة وأهميتها في التراث الشعبي الديني، تحدث "نعيسة" قائلاً: «تعلّم هذه اللعبة المهارة والمران والصبر والممارسة والقوة والتنافس البريء والتحدي والترفيه لأبناء القرية من فتية وشباب وفلاحين، تأتي قدسيتها حسب ما ذكر بالتراث الشعبي الديني أنّ أهل الكهف لعبوا فيها، وتظاهروا باللعب أثناء خروجهم من مدينة "إفسوس" ليتخلصوا من حكم ملكها "دقلديانوس" كي لا يلفتون النظر لخروجهم».

كما وردت تسمية هذه اللعبة في قصائد التراث الشعبي، حيث تحدث الباحث في التراث الشفوي اللامادي "نبيل عجمية" عن إحدى تلك القصائد المغناة، فقال:

«عمر الإنسان مهما دام صدق ما هو إلا أحلام

فكري أعطي مشروحات عن عمري وماضي الأيام

كنت تولد سبع سنين عند الخطيب اتعلم

قرينا حتى ختمنا الربع وكملنا حفظ الأنعام

وقت ال نطلع ع البرية متل الغزلان نتزاحم

ننصب لعب التكريعيا ونلعب قبة الحمام».

"غزوان علي" من أبناء منطقة "عرامو" الذي ساهم في إحياء هذه اللعبة من خلال مشاركته بمهرجان "عرامو" التراثي قال: «تمّ إحياء هذه اللعبة بعد ستين عاماً من توقفها في مهرجان "عرامو" التراثي الذي أسسه الباحث "حيدر نعيسة"، وقمنا بتصنيع عصيّ خاصة باللعبة من الخيزران، وهي متقنة ومحكمة لتناسب اللاعبين الرجال، فقد كان المهرجان فرصة مناسبة لإحياء لعبة "التكرعة"، حيث شكّلنا فريقين من الرجال، وكان فريقي الفائز في اللعبة، وأنتجت المباراة الكثير من الإيجابية، فالألعاب الشعبية؛ أم الألعاب تعلّم روح الجماعة والتواصل والرفاقية وشدّ الأزر، وتعلّم أن يكون الفرد بخدمة الجماعة والجماعة بخدمة الفرد، تقوم على الصدق وتبتعد عن الزيف والانطوائية والفردية التي تكرسها الألعاب الحديثة».