كان الإنسان السوري القديم يفسر كل حدث طبيعي حوله بما يحيله إلى دراما سهلة النقل إلى الأجيال التي تأتي بعده؛ وهو الأمر الذي جعل الأسطورة مرجعاً أساسياً لفهم تركيبة تلك الحضارة وتلك الأفكار.

وكثيرة هي الأساطير المشرقية التي تناولت تفسيرات الأحداث الطبيعية بهذه الطريقة "الممسرحة" قبل أن يتجسد المسرح بأشكاله المنهجية أواسط الألف الأولى قبل الميلاد، ولعل أسطورتنا التي سنتناولها هنا تصب في هذا الاتجاه كثيراً.

تتلخص القصة بأن "بعل" يبدأ تنظيم الكون من خلال تثبيت النظام والقضاء على مصادر الفوضى، وهذا الأمر تم في حقبة ازدهار "أوغاريت" بما يعني أن الميثولوجيا تلعب دوراً داعماً للحياة العامة في المملكة، ويبدأ الانتهار من "عشتر" وبعض الشخصيات إلى أن يصل إلى رب الماء والبحر؛ فهو مثال لعدم الانتظام، فيقتله ويثبت النظام

قصة الصراع بين الإله "بعل" و"يم" كما يذكر الكاتب "سجيع قرقماز" في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 9 تشرين الثاني 2015، تجسد التفسير الأوغاريتي لظاهرة الصراع بين النظام والفوضى، ويقول مضيفاً: «تتلخص القصة بأن "بعل" يبدأ تنظيم الكون من خلال تثبيت النظام والقضاء على مصادر الفوضى، وهذا الأمر تم في حقبة ازدهار "أوغاريت" بما يعني أن الميثولوجيا تلعب دوراً داعماً للحياة العامة في المملكة، ويبدأ الانتهار من "عشتر" وبعض الشخصيات إلى أن يصل إلى رب الماء والبحر؛ فهو مثال لعدم الانتظام، فيقتله ويثبت النظام».

سجيع قرقماز

يؤدي الدور الرئيس في الأسطورة الإله "بعل"؛ إله الخصب والمطر والرعود والبرق ويلقب بـ"راكب الغيم"، ويتمتع إلى اليوم بحضور مهم يتجلى في استمرار تصنيف الأراضي التي لا تروى بغير المطر "أرضاً بعل"، وهو بالتالي من أكثر الآلهة شعبية وحضوراً. والدور الثاني هو للإله "يم" ويعني اسمه كما في العربية البحر، أو النهر دائم الجريان، والدور الثالث للإله الأكبر "أيل" الذي يمثل القوة الكونية الكبرى والسيادة على الكون مع زوجته "عشتر".

يذكر الباحث "أنيس فريحة": «أن الأسطورة وجدت بنسخة واحدة تعد تقريباً 400 سطر، موزعة على ثلاثة فصول (أعمدة)؛ ففي فصلها الأول وتحديداً القطعة الأولى منها، هناك جدل بين "بعل ويم" يتعلق بالذهب، وفيما يستنجد "بعل" بالآلهة "عناة" يستنجد "يم" بالآلهة "عشتار" ويدعوانهما لنجدة كل منهما من دون أن يلقيا آذاناً مصغية منهما، ويتوقف الصراع هذا بعودة كل منهما إلى مقره من دون أي تفاصيل إضافية.

إعادة تخيل معبد بعل

في المقطع الثاني يرسل "يم" رسولين إلى "إيل" يطلب منه بعبارات قاطعة تسليمه "بعل"، ويتضح طلب "يم" في نهاية الرسالة حين يقول: (سأستحوذ على ذهب بعل). ويبدو أن الإله الكبير "إيل" يصدر قراره بأن يدفع إله الأرض الغرامة المستحقة لإله البحر، وقد ربح "يم" المعركة ضد "بعل"، ويثور الأخير ثورة كبرة، ويقوم بقتل رسولي "يم"؛ كما يتضح من النص لاحقاً.

هناك ثغرة تزيد على 150 سطراً مفقوداً تجعل من فهم التسلسل الطبيعي للأحداث غير ظاهر، ومن المؤكد أن "إيل" يأمر ببناء قصر فخم ليم "بحر" من قبل المهندس "كاثير" أو "كوثر حاسيس" وهو إله الأسلحة والبناء المصري الوارد أيضاً في أسطورة "دانيئيل"، ويبني "كوثر" القصر لإله البحر لكنه يحرض "بعل" على قتال "يم"؛ وهذا ما يحدث حيث يضربه بدبوس كبير بين عينيه، لكن لا نعلم ما إذا كان "يم" قد مات؛ حيث لا توجد ألواح تشرح ماذا جرى، لكن الأرجح أنه قتله».

تمثال الإله إيل

طرحت تفسيرات شتى للأسطورة لكن أكثرها قبولاً هو أن الأمر صراع بين البحر والبر، والأسطورة تجسيد لهذا الصراع بأشكال "ممسرحة" كانت تقدم للجمهور العريض في تلك الأيام، ويطرح بعضهم أن الأساطير تلك هي صدى للصراع الذي كان بين هذه الشعوب وغزاتهم "شعوب البحر"؛ التي أدت لاحقاً إلى خراب المدينة الجميلة إلى أبد الآبدين.

ويفسر الباحث "فراس السواح" الأسطورة لكونها استمراراً لأسطورة الخلق البدائي الممتدة إلى بلاد الرافدين: «فالمسرح الذي تجري عليه الأحداث يدل على أن زمن الخلق والتكوين قد مضى، وأننا في زمن يتلوه مباشرة، زمن تنظيم العالم والقضاء على قوى الفوضى و"الشواش" التي تهدده، والمتمثلة في المقام الأول في الإله المحيط الهائج الذي نجده بصحبة وحشين بحريين مخيفين هما "لوتان" وهو "لواياتان" التوراتي لاحقاً، و"تونان" الذي هو أيضاً التنين التوراتي لاحقاً، وهذان الإلهان يقتلهما "بعل" في حضور "إيل" رب الأرباب الكنعاني».

أياً يكن التفسير المطروح، فإن هذه الأسطورة وغيرها توضح الدور الكبير الذي أعطاه أجدادنا للقصص كي تكون منبراً تعليمياً ومسرحياً تنقل فيه المعارف إلى الأجيال الجديدة بطرائق مفهومة وقريبة إلى القلب.