"علي عاصي" شاعرٌ تتدرّج كتاباته بينَ الهمّ الواقعيّ والهمّ المجازيّ، حيثُ البساطة مرّةً، والتوتّر مرّةً أخرى، وعناوين قصائده تأخذ القارئ إلى فضاءٍ مفتوح الدّلالة، ليلج نصاً إيحائياً مفتوح الدلالة أيضاً.

مدوّنة وطن "eSyria" التقت الشّاعر في مقرّ عمله في المركز الثقافيّ في قرية "بيت ياشوط"، بتاريخ 30 حزيران 2014، للحديث عن تجربته الشّعريّة، وكان معه هذا الحوار:

قصيدته تشبهه، فهي تنبني على التّوتّر الانفعاليّ، والانفجار المباغت، والصّدم الصّاخب للسّائد والنّمطيّ، شكلاً ومعنىً، ولذلك يعمل على أن يكون الشّعر جدليّةً بين اللّغة والحياة، لا بين اللّغة واللّغة، وهو في كلّ ذلك مأخوذٌ بفضاءاتٍ من التّفاؤليّة الرّومانسيّة

  • أوّل دواوينك "اعترافات متأخّرة جدّاً"، لماذا تأخّرتَ في النّشر؟ وهل لنا أن نعرف شيئاً عن بداياتك الشّعريّة؟
  • يقرأ إحدى قصائده

    ** البداية الأولى لكلّ كينونةٍ في فضاءٍ مكتملٍ، متشابهةٌ لجميع كائنات هذا الفضاء، ولذلك تكون البداية الحقيقيّة بالانزياحِ عن البداية الأولى، بقوىً غير واضحة المعالم، لكون الفضاء الأوّل، فضاء مضطرباً. واعتماداً على الخوف، والاضطراب الّذي عاشه الجميعُ أدّى ذلك إلى شيخوخةٍ إبداعيّةٍ خائفةٍ، ولهذا نرى الجميعَ يتأخّر في الإعلان عن الهويّة الحقيقيّة، ولهذا تأخّرتْ بداياتي حتّى تمكنتُ من دخول فضاء الإيحاء، والرمز، بمبادلةٍ نسمّيها جميعاً مُبادلةً إبداعيّة.

    في البداية تأثّرتُ بالبشرِ والطّبيعة، فأخذتُ من البشرِ، وتعلّمتُ ما يعرفون، مرّةً بالتّوافق معهم، ومرّةً بالرّفض، فأنا لا أنكر فعلَ أحدٍ، ولكنّني لا أذوبُ في خصوصيّةِ أحد. أمّا الطّبيعة، فكانت الفضاء الرّائع، فهي بكينونتها العامّة أثّرت فيّ أكثرَ من غيرها، حيث لا تعرف التّشوّهَ إلا بمساحاتٍ قليلةٍ، لعبَ بها الإنسان لعبته، بقصدِ ترويضها، ولكنّها رغمَ ذلك بقيتْ فضائي المُدهش. فالشّجرة لا تعرف ما يعرفه البشر، وكان من الأفضل بالنّسبة لي ألا يعرفونها، فهي صادقةٌ لا تخاف شيئاً، ودائماً بهويّةٍ متجدّدةٍ تتفّق كثيراً مع طبيعتي، وطبيعةِ الشّعر الّذي أحبّ.

    غلاف ديوانه "المزامير"

  • تغلبُ على تجربتك الشّعريّة قصيدةُ التّفعيلة، لماذا اخترتَ هذا الأسلوب؟ وأين تجربتك من الحداثة؟
  • ** لم أشعرْ بأنّي اخترتُ أسلوباً بعينه، وإن كان ذلك حقيقةً واقعة، وربّما كانت الطّيور هي السّبب، فهذه ليست تفعيلةً، إنّها نغمةٌ خارجةٌ عن المألوف، ولكن تأبى مهازل النّقد إلا الاعتداء على الطّيور التي تريد أن تصدَح، محاوِلةً مصادرة ذلك لمصلحة قوانين النّقد الصّارمة. وبشأن الحداثة، فالتوقّف عن الكتابة لا يعني الاكتفاء، وربّما أنهض بعد فترةٍ، وربّما أعلنُ غير ذلك، فالحداثة إنتاجٌ متقدّمٌ، ونحن نعيش في فضاءٍ يُسمّي الاجترار والتّكرار حداثةً، فلا تستطيع الكلمات أن تؤطّر الحداثة، لأنّها إنتاجٌ، وثقافة، ومشروعٌ، وليست مجرّدَ ادّعاء.

    غلاف ديوانه "اعترافات متأخرة جداً"

  • دراستك الأكاديميّة للّغة العربية، ماذا أضافتْ لكَ شعريّاً؟
  • ** دراستي الأكاديميّة أضاعتْ من عمري الكثيرَ، لقد أوشكتْ أن تقضي على كلّ ملَكةٍ إبداعيّة لديّ، وبقيتُ أعملُ لسنواتٍ عدّةٍ للخلاص من آثار الأكاديميّ، عدوِّ الإبداع بالمطلق، وعليكَ فقط الاطّلاع على المقرّرات الأكاديميّة في جميع الجامعات العربيّة، والعالميّة المُستخدِمة للّغة العربيّة، لتستنتجَ أنه لا علاقة لها بالإبداع.

    وأعمقُ من هذا فإنّ القائمين على التّعليم، بانتظارِ اسمِ مؤلّفٍ مبدع، لكي يصدروا الفتاوى بمنعِ التّعاطي مع إنتاج هذا المؤلّفِ أو ذاك. ولزاماً على كلّ مبدِعٍ، ومنتجٍ أن يطوّرَ مُنتجَه الأدبيّ. واللّغة من وجهة نظر كلّ عاقلٍ، هي إنتاج إنسانيّ، وكلّ مُنتَجٍ لا يتطوّر، دليلٌ قاطعٌ على موت المنتِج، ولهذا كان العملُ والسّعي للتّعاملِ مع اللّغة العربيّة بطريقةٍ خارجة بعض الشّيء عن موتها، ينفخِ بعض الرّوح فيها. فأنا لا أختبئ وراء شيءٍ، فلستُ أكبر من قضيّتي مثل "محمود درويش"، ولست ساعياً للاستعانة بـ"النّفريّ" مثل "أدونيس". فأنا أسعى لشيءٍ آخر.

  • كيف تتشكّل اللّحظة الإبداعيّة عندك؟ وما علاقتها بالزّمان والمكان؟
  • ** يحتاجُ سؤالٌ كهذا إلى مخاطرة شديدة في الإجابة، وأتمنّى أن أوفّق في إيصال المعنى، فالقضيّة ليست سهلةً، وليست صعبةً، لكنّها تسبح في فضاءٍ مُختلفٍ. فتجربتي الكتابيّة جاءت مرّاتٍ عدّة، لا علاقة لها بالزّمان، والمكان، وأعتقد أنّ الجميع يعانون من هذه الحقيقة، لكنّهم يقدّمون أجوبةً خارج هذا السّياق، فحقيقة اللّحظة الإبداعيّة تأتي في لحظةِ انهيارٍ؛ انهيارِ الزّمان والمكان، الأمرُ الّذي يفترض إنتاجاً تعويضيّاً على مقاس الانهيار، فمثلاً عندما تهرب الحبيبة من بين أصابع الحقيقة، نهربُ جميعاً إلى مساحة الانهيار الّتي تحدّثتُ عنها.

  • من أين تستقي ثروتك اللّغويّة؟ وما دور المرأة خصوصاً فيما تكتب؟
  • ** المُبدع الحقيقيّ هو لغته، ولغةُ المبدع هي اللّغة الّتي تأبى العيشَ في المعاجم، ووحده المُجدّد أخذ الكلمةَ من مدفنها الجميل، وأسكنَها كينونةَ السّياق الخاصّ به، متمنّياً لها أن تعيشَ كأنثى خارجةٍ على جميع قوانين الاعتداء عليها، القادمةِ من كلّ الفضاءات المعرفيّة، والاجتماعيّة، والدّينيّة. وتسألني عن المرأة، فهناك.. وهناك... ووحدها المرأة الّتي جزّوا ضفائرَها، فأدمنتِ المسيرَ، كانت بجانبي تتجلّى كما أريد، وكما أتمنّى، وأتجلّى كما تصبو، فكانتْ، وكنتُ، وسنكون خارج مهزلةِ المدافن.

    * ما مشروعك الحاليّ؟

    ** أنا كاتبٌ مقلّ في هذه الأيّام، ولكنّني قارئٌ مهتمٌ بالجديد، فأحاول أن أثريَ ثقافتي ريثما تحضر لحظة الكتابة. وعلى الصّعيد المهنيّ، فإنّ عملي كمديرٍ للمركز الثّقافيّ في "بيت ياشوط"، جعلني في قلبِ الشّأن الثّقافيّ، حيث أحاول جاهداً أن أقيمَ النّدوات، والأمسيات، في محاولةٍ لتطوير الحالة الثّقافيّة، الاجتماعيّة في القرية.

    هو شاعرٌ قلقٌ، متمرّدٌ، راغبٌ في التّجديد، مباشِرٌ، وواضحٌ كما يقول الشّاعر "محمّد كامل حسن"، الذي يضيف: «قصيدته تشبهه، فهي تنبني على التّوتّر الانفعاليّ، والانفجار المباغت، والصّدم الصّاخب للسّائد والنّمطيّ، شكلاً ومعنىً، ولذلك يعمل على أن يكون الشّعر جدليّةً بين اللّغة والحياة، لا بين اللّغة واللّغة، وهو في كلّ ذلك مأخوذٌ بفضاءاتٍ من التّفاؤليّة الرّومانسيّة».

    الشّاعرة "صفيّة ديّوب" قالت: «هو مثقّفٌ مهمّ، وله دورٌ أساسيّ في الاهتمامِ بالشّعراء، حيث يمنحهم الفرصَ للتّعبير عن إبداعاتهم، وأنا ممّن دعاهم للمشاركة في المحاضرات، والأمسيات الشّعريّة. وهو غير معنيّ بشريحةٍ معيّنة، أو مذهبٍ شعريّ، بل يعنيه كثيراً التنوّع، والاختلاف، ليساهم بذلك في تشكيلِ حالةٍ ثقافيّة، من شأنها تعميق الوعي المعرفيّ، وإخراجهِ إلى الضّوء».

    مقطع من قصيدته "من دفتر الطفولة"، من ديوانه "المزامير":

    "أنا زهرةٌ للمستحيلِ...

    تسلّقتْ عرشَ الأبوّة، والجذورْ

    أنا فوق عرشكَ قابعٌ...

    حتّى النّشورْ...

    بابا...

    رضيعُ جنونكَ البكريّ،

    لا تخشَ اللّقاءَ أو الفراقْ

    فأنا وأنت..

    رسالةٌ قرِئتْ على صمِّ الأحبّةِ، والبشر...

    سيّانَ يا أبتي البقاء، أو الفناء...

    سيّانَ يا أبتي الحياة، أو الممات...

    أنا زهرةٌ للمستحيلِ...

    تفتّحتْ في عرشك العالي، العصيّ

    فحوّرتْ ريشَ الجناح إلى زغبْ...

    زغلولك الطّفليّ

    بعضٌ من جناحكَ،

    والجسد".

    يُذكر أنّ الشّاعر "علي عاصي" من مواليد "بيت ياشوط" في ريف "جبلة" عام 1961م. صدرت له ثلاث مجموعات شعريّة: "اعترافات متأخّرة جدّاً" عام 2004م،

    "المزامير" عام 2004م،

    "المخاض" 2005م.