"محمد كامل حسن" شاعرٌ كلاسيكيّ، مشهودٌ له بغزارة إنتاجه. في قصائده، وحديثه الكثيرُ من فروسيّة الشّعراء القدامى، وكأنّه يكتب قصائده من على ظهرِ جوادٍ، مازجاً بين صهيل القديم، وعنفوان الحاضر.

مدوّنة وطن "eSyria" التقته في منزله في قرية "السّخّابة"، بتاريخ 29 أيّار 2014، للحديث عن تجربته الشّعريّة، وكان معه الحوار التّالي:

هو شاعرٌ خصبُ القريحة، يتدفّق كالينبوع، ويملأ النّفسَ بهجةً. متمرّدٌ كأمواج البحرِ، لا تقفُ أفراسُ بيانِه عن الفتح، ولم تكبُ به رغم شموسها، وشموخها. ومع هذا وهذا، فهو يذوب عشقاً، وينفطر بوحاً، ويتماهى سناءً، وحسبي أن أقول له: "إنه الشّاعر"

  • كيف دخلتَ عالمَ الشّعر؟ وبمن تأثّرتَ في بواكير كتاباتك؟
  • يقرأ الشعر في حديقة منزله

    ** سأبدأ الإجابة ببيتين من الشّعر:

    "طَلعتُ على الدّنيا نجيباً وشاعراً

    من الصّفوة الأخيار، والسّادة النّجبِ

    وحسبي أنّي لا أرى فوق ما أنا

    ديوانه "علندى"

    عليه، مكاناً أرتقيه، وذا حسبي".

    إذاً ولدتُ شاعراً من رحم الموهبة التي لا تأتي تاليةً للشّاعر، كما أنّه لا يأتيها تالياً. أمّا فيما يتعلّق بالتّأثّر، فهذه سنّة الأحياء، وقانون الموجودات، ولا أبالغ إذا قلتُ إنّ أوّل شاعرٍ تأثّرتُ به هو "الله" في مفرداتِ خلقه، وخصوصاً "القرآن الكريم"، ثمّ الطّبيعة بجمالها المُمتدّ والمفتوح، ولاحقاً تأثّرتُ بالشّعر الحقيقيّ من "المُهلهل" إلى "أدونيس"، ولم أتأثّر بالأسماء، وإنّما تأثّرتُ بشعريّة القصائد، وبالشّعر الموجود في القصيدة العربيّة. وهنا أريد أن أقولَ: إنّ الأسماء الكبيرة تاريخيّاً، لا تبدو لي بحجم شهرتها، مع أنّها ذات سطوةٍ، قلّما يفلتُ منها شاعرٌ من حيث التأثّر، وهذا ما أدّى برأيي إلى تشابه الشّعر وتراجعه.

  • تتوزّع قصائدك بين الموزون المقفّى، والتّفعيلة. لماذا اخترتَ هذا الأسلوب؟ وأين قصائدك من قصيدة النّثر، ومتغيّرات الوجود فنّيّاً؟
  • ** أنا اخترتُ الشّعرَ لا الشّكل، فالشّعر روحٌ وليس شكلاً، وأنا أحقّ بالشّعر أينما وجدته، وكيفما التقينا. ومن أخطاء القدماء على نباهتهم، أنّهم عرّفوا الشّعر بأنّه الكلام الموزون المُقفّى، فكان ذلك فسحةً لمن استسهلَ مقام الشّعر، أن يدّعي الشّعرَ بالنّظم، ووقعَ العامّة في الاختلاط، فما عادوا يُميّزون بين النّظم، والشّعر. أمّا عن الحداثة، فقصيدة النّثر موجودةٌ، وأنا جزءٌ من هذا العالم المتغيّر، لكنّ تغيّري يتمّ ضمن الثّابت وداخله، وليس داخل المتغيّرات، وأنا بصفتي شاعراً لستُ منفصلاً، أو متّصلاً كالكثيرين، فيما يتعلّق بالحداثة، والعلاقةِ مع التّراث.

  • "علندى" عنوان ديوانك الأوّل. ما معنى الاسم أوّلاً؟ وهل نال حظّه من النّقد والقراءة؟ وكيف تنظر إليه اليوم؟
  • العنوان مأخوذٌ من بيت الشّاعر الفارس "عمرو بن معدِ يكرب الزّبيديّ": "أعددتُ للأعداءٍ سابغةً، وعدّاءً علندى"، فـ"علندى" هي الفرس الضّخمة، السّريعة، القويّة، والرّشيقة التي تليق بفارسها. بالفعل لم ينلْ ديواني ما يستحقّه من النّقد والاهتمام، ككلّ ما ينتجه الشّعراء في هذا الزّمن، وذلك بسببِ غياب موضوعيّة النّقد، ووهنِ النّقاد، وغياب المؤسّسة الثّقافيّة، وانحدار الذّوق العامّ، وهذا لا يُحزنني، فالشّاعر مُهملٌ كالشّمس الّتي تطلع كلّ يومٍ، وغالباً لا ننتبه لأهمّيتها. الشّاعر والشّمس بحاجةٍ إلى غيبةٍ حقيقيّة، حتّى يُعرفان، وما أسوأ ألّا نُعرف حتّى نغيب! اليوم أشعر بأنّي تجاوزتُ ديواني الأوّل، وتجاوزتُ ذلك الشّاعر الذي كتب قصائده قبل ثلاثين عاماً، ومع ذلك لا أتبرّأ منه، فهو منّي.

  • في كتاباتك مؤثّرات صوفيّة. هل تعتقد أنّ التّصوّف، والتأمّل ضروريّان في عالمٍ استهلاكيّ يتفكّك يوميّاً؟
  • ** لا شعرَ بلا تأمّل، ولا فكرة بلا وجوديّة، ولا عشقَ بلا تصوّفٍ، ولا شاعرَ من دون التأمّل، والفكرة، والوجود. التّصوّف والتّأمل يبدوان ضروريّين لي، في حضرة العالم المتفكّك المُتهالك. والإنسان عامّةً، والشّاعر خاصّةً، أكثرُ حاجةً إلى التّأمّل والتّصوّف، فهما جنّته وثروته وعالمه داخل هذا العالم "اللا عالم"، والأشياء تُطلَبُ من أضدادها، وأقول في أحد أبياتي: "ويُطلبُ عن طريق الضّدِّ ضدُّ"، فهما وسيلتي لاستحضارِ ما لا يُقال، بواسطةِ ما يُمكن قوله.

  • انحسر قرّاء الشّعر بشكلٍ عام لمصلحة الرّواية والتّشكيل والصّورة. كيف يمكن برأيك أن يستعيدَ الشّعر قرّاءه؟
  • ** نعم انحسرتِ القراءةُ والقرّاء، وأصبحَ كلّ كتابٍ مهجوراً، فلا قرّاء هنا للشّعر، أو الرّواية أيضاً، باستثناء بعض الرّوايات السّطحيّة، والأشعار الّتي تدغدغ الذّوق السّائد، فما يُوجد في الوسط الأدبيّ، هو تهافتٌ على الأشياء والحاجات اليوميّة العاديّة في عالم استهلاكيّ بكل ما فيه من بشرٍ وأفكار، ولن يعودَ للأدب عامّةً، وللشّعر خاصّةً حضوره وقرّاؤه حتّى يُحترَم الشّاعرُ في قومه، كما كان يُحتفَى به أيّام الجاهليّة.

  • في قصائدك احتفاءٌ واضحٌ بالطّبيعة والمرأة. كيف يمكنُ تفسير هذه الميول شعريّاً؟
  • ** الشّعر ليس كلاماً، وإنّما موقفٌ من الحياةِ، وعلاقةٌ بالأحياء والموجودات. والمرأة هي الطّبيعة، والقصيدة هي المرأة بتجدّدها، وقدرتها على الخصب، والإنسان من رحم الأنثى، ومفردات "الحياة، والقصيدة، والكلمة، والحرّيّة، والشّمس، والزّهرة" كلّها مؤنّثة، وتحمل في دلالاتها هذا الفيضَ المتجدّدَ والمبتكر، ولذلك لا غرابة أن أستلهمَها في كتابتي، وأن تكون محورَ اللّغة الشّعريّة في معظم ما أقوله شعريّاً.

    * ما هو مشروعك الحاليّ؟

    ** ليس لديّ مشروعٌ لتغيير هذا العالم بصفتي شاعراً، مع أنّني دائمُ الكتابة والبحث في الشّعر، والفكر، والحياة، ولكنّني مع كلّ ذلك آمل أن أغيّر نفسي، وهذا باختصار مشروعي الحقيقيّ.

    الشّاعر "قاسم أحمد" تحدّث عن تجربته الشّعريّة بالقول: «هو شاعرٌ خصبُ القريحة، يتدفّق كالينبوع، ويملأ النّفسَ بهجةً. متمرّدٌ كأمواج البحرِ، لا تقفُ أفراسُ بيانِه عن الفتح، ولم تكبُ به رغم شموسها، وشموخها. ومع هذا وهذا، فهو يذوب عشقاً، وينفطر بوحاً، ويتماهى سناءً، وحسبي أن أقول له: "إنه الشّاعر"».

    الشّاعر "أيمن معروف" تحدّث بالقول: «في تجربته، ما يُغري القارئ، والنّاقد معاً بالوقوف عل عتباته الشّعريّة، لسببين اثنين:

    أوّلاً: أنّه واحدٌ من الشّعراء الذين آمنوا بالمعايير التقليديّة للقصيدة، وأخلصوا في ممارسة هذا النّسق من الكتابة الشّعريّة، واطمأنّوا إلى السّهر، والسّمر حول خمرة الشّعر في الدّنان القديمة، دون أن يقعَ شعرُه في رتابة الصّورة، أو التّكرار في المعنى، والاستهلاك المجانيّ للغة، فنجتْ أغلبُ قصائده من وطأة الزّمن، باعتباره عبئاً على اللغة، والمعنى، والصّورة.

    ثانياً: لأنّه أحدُ الذين يحرسون على العتبات الجماليّة القديمة، وينهلون من روافدها الإيقاعيّة، والرّمزيّة، والتّعبيريّة، بوعيٍ شعريّ حادّ، ويحرثون في المناطق، والطّرق المؤسّسة، لاكتشاف وارتشاف بنىً شعريةً جديدة خادمةً، لجماليّات القصيدة، وصادقةً في آن. فشعره قادرٌ على سبر العوالم، وتأويل معالم الوجود في حالتها التشكيليّة الأولى، واندغامها الصّوفيّ، كما أنه قادرٌ على ابتكار المجازات واستكشاف اللّقى الاستعاريّة، مثلما هو قادرٌ على تحريك القرَبِ الكنائيّة في تمثيلاتها الجماليّة، وتحوّلاتها الدّلاليّة، والإمساك بالمفاتيح النّصيّة، والانقلاب على العلامات المؤسَّسة في الشّعرية القديمة المحروسة أصلاً في المرجعيات، والعلامات».

    من ديوانه "علندى"، قصيدة "عندما يومئ ذلك العالم":

    "أغيبُ، ووجدي لاهبُ الوجهِ، حاضرُ

    وأحجبُ وجهَ الشّوقِ، والعشقُ ظاهرُ

    أغيّرُ عنواني، وأبدل وجهتي

    وأرحل وحدي، مثلما راح طائرُ

    أسافرُ من كونٍ وسيعٍ، لآخر

    وسيعٍ وسيعٍ، ما لدنياه آخرُ

    وأجتاز أبعادَ الحياة، وأرتمي

    على أفقِ الأخرى، وشوقي مسافرُ

    أظلّ نفوراً، دائمَ الجدّ، ساعياً

    طموحاً، وحظّي أسودُ الوجهِ، عاثرُ

    أخبّئ أسراري، وأخفي مواجدي،

    فيهتكني وجهي الغريب المهاجرُ

    ويفضحني وعدي مع الشّمس، كلّما

    بدتْ غررٌ منها، ولاحتْ ضفائر

    رغائبُ لي خلف المسافات، كلّما

    هممتُ بها، دارتْ عليّ الدّوائرُ

    وما أنا إلا عاشقٌ، شلّه الهوى

    وآيسَه الحسْنُ الشّمُوسُ المُكابرُ

    وليس له حِلفٌ، سوى عزمهِ الّذي،

    يزيد إذا زادت عليه المخاطرُ

    له كلّ ما يبغيه في ذاتهِ الّتي،

    تآلفَ فيها العالمُ المُتنافر".

    يُذكر أنّ، الشّاعر "محمّد كامل حسن" من مواليد قرية "السّخّابة" في ريف "جبلة" 1957م، وصدر له العديد من المجموعات الشّعريّة، والقصصيّة، والدّراسات النّقديّة، منها:

    "علندى" 2006م، "شعر".

    "أول النهار" 2006م، "شعر".

    "أغلقوا باب القصر" 2008م، "قصة".

    "شرفات مشرقة" 2009م، "نقد".

    "حروف الوصل" 2010م، "شعر".