كتب الشاعر "منذر المصري" أول قصائده في غرفته في المدينة الجامعية بـ"حلب"، ثم كتب وهو في حفرة فردية على الجبهة، وبعد حصوله على جائزة الشاعر "حامد بدرخان" التي تقدمها رابطة الكتاب والصحفيين الأكراد في "سورية"، عاش لحظة نادرة في تجربته -حسب قوله- لأنه لم يشارك أو يتقدم من قبل لأي جائزة في حياته.

مدونة وطن "eSyria" التقت الشاعر بتاريخ 23 أيار 2014، وكان الحوار التالي:

يمكنني أن أختصر تجربة منذر بجملة واحدة: (تقطير السرد)، وفي حال أردت أن أضيف ما هو أكثر من ذلك أجدني ميّالاً إلى قولي إن النصّ الشعري لدى "منذر" هو نصّ دنيا بامتياز، نص يدرك تماماً بأن للما ورائي، بما في ذلك الآخرة، الكثير ممّن يتكالبون على كتابة نصّه، وبالتالي نلحظ الغياب التلقائي للأفكار المُقدّمة على أطباق الغيب، أو تلك التي تنفثها غلايين الحكمة والفلسفة دون أن يعني ذلك غياب الأفكار والنظرة الفلسفيّة عن هذا النص، لكنهما لا يأتيان كجاهزيات قبليّة بل كنتائج تنجدل وتنصاغ من قلق التفاصيل وحميميتها، ومن الخصوصيّة التي تجمعهما وتؤّلفُ بينهما، والتفاصيل التي أقصدها وأعنيها ليست الاستطرادات والتفسيرات التي ترهق الومضة الشعرية وتهلهل بنية النص، إنما تلك التي تجعل لكلّ مُفردة حياتية موقعها الذي يمكن أن تشغله، إن أرادت في السياق السردي الذي يقوم عليه النص. ويخال لي أحياناً بأن "منذر مصري" يكتب الشعر كمصل أو كمُضاد حيوي، لمقاومة القدرية التي تأخذ بالمصائر إلى المجهول؛ إذ يُعيد دوماً إنتاج تلك القدرية كسؤال لا مهرب من الإجابة عنه، وتكون الإجابة دوماً هي إحداث المواجهة بين العادي وعاديّته عبر مرايا متقابلة يُمثّلها السرد. مرّة بعد أخرى تؤكد تجربة "منذر مصري" أمرين يخصّان الكتابة الشعرية، والجديدة منها على وجه الخصوص، الأول منهما يتعلق بأن هنالك كائن (نثري)، وآخر (أضمومي - من ضم) أو (أجموعي – من اجتماع، وجماعة)، والثاني يخصّ فكرة أن السرد هو طوق النجاة الوحيد للكتابة الشعرية الجديدة

  • اهتديت إلى عالم الشعر باكراً فكانت مجموعتك الشعرية "بشر وتواريخ وأمكنة" (1979)، حيث الكثير من الصور المدهشة، فهل تحدثنا عن هذه البداية؟
  • ** ليس "اهتديت"، أنا من يقول: (رجل ضلّ الطريق مراراً فوصل إلى قلبي)، بل الضياع هو ما أوصلني إلى الشعر، وربما لكل شيء أنا عليه اليوم. شعري يكرر هذا وكأنه شعار حزبي. وكذلك ليس باكراً، لم أكن يوماً طفلاً لامعاً يبشر بشيء لافت. في مراهقتي، التي مرت دون أن يشعر بها أحد حتى أمي، كما قالت لي، اهتممت بسماع الموسيقا، ولدي اليوم خمسة ألحان لا يسمعها أحد غيري، أعجب بها أيما إعجاب، تأتي من المجهول وتذهب إلى المجهول.

    أما الشعر فلم أبال به إلاّ خلال دراستي الجامعية، ومجموعتي الشعرية الأولى، كانت (آمال شاقة) التي قدمتها لاتحاد الكتاب ووافق على التعاون في إصدارها، لكنني طبعتها بإصدار خاص، ووزعتها على الأصدقاء، أما (بشر وتواريخ وأمكنة)، فقد صدرت عن وزارة الثقافة وأنا بعمر 30 سنة. مما كان يدفع الشاعر "رياض الصالح حسين" قبيل وفاته للقول ضاحكاً بأنه أصغر مني بخمس سنين ولديه ثلاث مجموعات ويهم بطبع الرابعة، وأنا بمجموعة واحدة لا أكثر. ذلك أنني بعد إصدار مجموعتنا المشتركة (أنذرتك بحمامة بيضاء)، "مرام مصري، ومحمد سيدة، وأنا 1984"، وإصدار ومصادرة "داكن" 1989. بقيت شاعراً بمجموعة وثلاث حتى عام 1997، حين أصدرت "دار رياض الريس" في "بيروت" شبه مختارت شعرية (مزهرية على هيئة قبضة يد).

    18 عاماً دون إصدار مجموعة شعرية، لشاعر يكتب يومياً، وبات لديه في درجه سبع مخطوطات جاهزة للطبع، ولكن هذا بدل أن يغضبني، ويحبطني، بات سمة شخصية لي حتى إنني لم أدفع بمجموعة أخرى للطبع رغم أنه توفرت لي لأول مرة في حياتي أهم دار نشر عربية مستعدة لطبع شعري إلا في 2004 عندما صدرت (الشاي ليس بطيئاً)، وبعدها في عام 2006 أصدر لي "خالد خليفة" في داره الخاصة، التي لم تصدر سوى أربعة كتب، ثلاثة له، والرابع لي، وهو الجزء الأول من أعمالي الشعرية (المجموعات الأربع الأولى).

  • ما هي ملامح اللحظة الإبداعية لديك، وأين تكتب؟
  • من لوحات الشاعر بعنوان "بوشكين"

    ** لا أدري إن كانت لدي لحظة إبداعية، عندما أكتب أستغرق فترات زمنية مديدة نسبياً، في الحقيقة أكتب دائماً، على نحو تراكمي. بالتأكيد هناك أيام وشهور وسنوات ربما، أبدو فيها وكأني لا أفعل شيئاً بينما الحقيقة هي أنني أحيا، بالطريقة التي فعلت كل شيء ليتاح لي الحياة هكذا. أكتب حيث أجد المكان الذي يسمح لي بالانكباب على الكتابة. أول قصائدي كتبتها في غرفتي بالمدينة الجامعية بـ"حلب". بعدها كتبت وأنا في حفرة فردية على الجبهة، ثم جاءت الوظيفة، حيث مكثت في ذات الغرفة على ذات المكتب، فوق ذات الكرسي 28 عاماً كاملة. كتبت فيها 90% مما سيكون محصلة كل حياتي، 28 عاماً في هذا المكان الرمادي، الكئيب، تصوري أي شاعر أنا؟!

  • من قصيدة: "الأصدقاء... ما عادوا قتلة ضجر" في ديوانك "الشاي ليس بطيئاً"، استوقفني ذلك الزخم الحزين في الكلمة ما يجعل القارئ يتمنى لو أنه هو الذي يكتب، فماذا تقول؟
  • ** ليته يفعل... برأيي الشاعر الحقيقي، مصنع شعراء، هذا ما كان عليه كل الشعراء الحقيقيين، إلا أن الشاعر عليه أن يكون ماركة، علامة تجارية خاصة به لأنه بقدر ما تبدو الفكرة إيجابية من هذه الناحية، ناحية الشاعر أعني، بقدر ما تكون ذات نتائج سلبية من الناحية المقابلة، أعني نتاجه من الشعراء. أي إن كل شاعر حقيقي، يأخذ معه، إن لم أقل يجر خلفه، ما يقارب الـ100 شاعر، لم يقدر لهم أن يتخلصوا من مغناطيسه، من شبكته، غير أنني، في الواقع، مغناطيس ضعيف، قد يعجب بشعري أناس قليلون أو كثيرون، ويدفعهم، لما يعتريه من سهولة ظاهرة، أن يقبلوا على كتابة ما يخالونه مثله، أو أفضل منه، إلا أنه، أستطيع القول، لا يصلح كشبكة على الإطلاق، إلا لمن كان يرغب طواعية أن يعلق بي.

  • هناك شيء يحرض القارئ لدى قراءة أشعارك، فهل تحب "لعبة الذاكرة" لالتقاط هذا التحريض؟
  • ** أنت تقولين، هناك شيء يحرض القارئ لدى قراءة أشعاري. بالنسبة لي من أين لي معرفة ذلك والإقرار به، ولكن نعم، أتمنى لو أن شعري هكذا. أتمنى لو أنني أستطيع تحريض قارئي لفعل شيء ما، فقد كان هذا أحد أروع أوهامي، التي كانت في البداية تشكل كل دوافعي للكتابة.

  • هل تعتقد أن الغزارة في الكتابة لها علاقة أحياناً بالخوف من مسألة العمر؟
  • ** بالنسبة لي لا أعتقد أن للغزارة في الكتابة علاقة بالخوف من مسألة العمر. كنت في بداياتي وفي شبابي، يا لها من كلمة تضطريني لاستخدامها على هذا النحو، أكتب بغزارة شديدة. ولكنك تقولين أحياناً، نعم ربما أحياناً بالنسبة للآخرين، ما يأتي لذاكرتي الآن، أن "سعد الله ونوس، وممدوح عدوان" عندما علما بمرضهما العضال، انكبا على كتابة غزيرة. وكذلك آمل أنني ما أن أضع ملذات الحياة الدنيا جانباً، وأتفرغ للفصل النهائي والمشهد الأخير، أن أكتب بغزارة شديدة، دون أن آبه للأشياء التي تعيقني اليوم. نعم آمل ذلك.

  • إجازة في العلوم الاقتصادية في جامعة "حلب" 1971، مع دبلوم في التخطيط الإقليمي في وارسو – بولونيا 1979، والشعر ثم الشعر وصولاً إلى ديوان "الصدى الذي أخطأ" –2011، هل نسمع رأيك في ذلك؟
  • ** لا تعني لي دراستي بحد ذاتها شيئاً، كان قراري بدراسة الاقتصاد خطأ كبيراً في حياتي، ولكني أحسب أنني صححته بطريقة أو بأخرى. فقط الأمكنة التي رأيتها، والبشر الذين عرفتهم، والتواريخ التي خبرتها، هي كل ما يعنيني. وهذا ليس بالقليل أبداً، بل ربما كانت السنوات الأربع التي عشتها في "حلب"، والأشهر القليلة التي كنت بها في "وارسو"، رسمت ولونت حياتي للأبد.

  • الشعر هو تكثيف لكل ما يعيشه الشاعر، فما هو النص الذي يؤرقك وتتمنى أن تكتب عنه الآن؟
  • ** ربما كان الشعر كذلك. نعم إنه -على عموميته- وصف لا بأس به للشعر، وبالنسبة لي، الشعر هو جوهر حياتي، كأسلوب عيش، وكتجربة إبداعية، إذا كان يحق لي القول. عشت أكتب ما أجده بين يدي، أو على شفتي، وأريد أن أقوله، لم يكن يؤرقني نص خاص، ولكن اليوم يؤرقني حقاً نص ما يحدث لـ"سورية"، ما يحدث للسوريين، بلدي وشعبي. يؤرقني ويدميني أيضاً، ولا أظن أني من الناس الذين يقدرون اليوم، أو سيقدرون يوماً، لإعطائه حقه في الكتابة. غيري فعل ربما، وسيفعل بالتأكيد، أما أنا فأفتقد لكل قدرة لشيء كهذا.

  • يحكى أنك شاعر يستعرض موهبته في كتابة الشعر، فبماذا ترد على ذلك؟
  • ** أكثر ما حاولت تجنبه في شعري ورسمي هو الافتعال، والاستعراض، أنا رجل خال من التباهي بصورة شبه مطلقة، وإن كنت دائماً أصدق بشعري ورسمي، وأحياناً أجد نفسي معتداً بما استطعت القيام به في حياتي. حتى إنني بت، بعد كل هذا الزمن، في حقل الشعر خاصة، وكأنني معلم حرفة، أو سيد كار، كهذه النبرة التي ربما سيكتشفها الكثيرون من طريقة إجابتي عن أسئلتك، وذلك لأنني حقيقة أشعر بشيء من الانتشاء بسبب فوزي مؤخراً بجائزة الشاعر "حامد بدرخان" التي تتألف لجنتها من كوكبة من الشعراء والأدباء السوريين المعروفين، ويترأس مداولاتها الناقد "صبحي حديدي"، لذا حقيقة: أنا أحيا الآن لحظة نادرة في تجربتي، لأني يوماً لم أفز بمسابقة أو جائزة من أي نوع، علماً أنني لم أشارك أو أتقدم لأي منها، ولأني أيضاً ما عدت أستطيع أن أعدد من مآثري (عشت وكتبت ورسمت، ولم أفزّ بأية مسابقة، ولم أنل أية جائزة).

    الناقد "ياسر سكيف" قال عنه: «يمكنني أن أختصر تجربة منذر بجملة واحدة: (تقطير السرد)، وفي حال أردت أن أضيف ما هو أكثر من ذلك أجدني ميّالاً إلى قولي إن النصّ الشعري لدى "منذر" هو نصّ دنيا بامتياز، نص يدرك تماماً بأن للما ورائي، بما في ذلك الآخرة، الكثير ممّن يتكالبون على كتابة نصّه، وبالتالي نلحظ الغياب التلقائي للأفكار المُقدّمة على أطباق الغيب، أو تلك التي تنفثها غلايين الحكمة والفلسفة دون أن يعني ذلك غياب الأفكار والنظرة الفلسفيّة عن هذا النص، لكنهما لا يأتيان كجاهزيات قبليّة بل كنتائج تنجدل وتنصاغ من قلق التفاصيل وحميميتها، ومن الخصوصيّة التي تجمعهما وتؤّلفُ بينهما، والتفاصيل التي أقصدها وأعنيها ليست الاستطرادات والتفسيرات التي ترهق الومضة الشعرية وتهلهل بنية النص، إنما تلك التي تجعل لكلّ مُفردة حياتية موقعها الذي يمكن أن تشغله، إن أرادت في السياق السردي الذي يقوم عليه النص. ويخال لي أحياناً بأن "منذر مصري" يكتب الشعر كمصل أو كمُضاد حيوي، لمقاومة القدرية التي تأخذ بالمصائر إلى المجهول؛ إذ يُعيد دوماً إنتاج تلك القدرية كسؤال لا مهرب من الإجابة عنه، وتكون الإجابة دوماً هي إحداث المواجهة بين العادي وعاديّته عبر مرايا متقابلة يُمثّلها السرد. مرّة بعد أخرى تؤكد تجربة "منذر مصري" أمرين يخصّان الكتابة الشعرية، والجديدة منها على وجه الخصوص، الأول منهما يتعلق بأن هنالك كائن (نثري)، وآخر (أضمومي - من ضم) أو (أجموعي – من اجتماع، وجماعة)، والثاني يخصّ فكرة أن السرد هو طوق النجاة الوحيد للكتابة الشعرية الجديدة».

    الشاعر "حسين عجيب" تحدث عنه بجملة واحدة، فقال: «أكثر ما أكرهه في اليأس سهولته».

    يذكر أن، الشاعر من مواليد "اللاذقية"، 1949.