شاعرة تكتب ذاتها وهواجسها بالكثير من العفويّة والصّدق والعمقِ، محاولةً ابتكارَ نسقها الشّعري الخاصّ، و"عبير سليمان" فيما تكتبُ تمزجُ بين الشخصيّ والعامّ في بنيةٍ لغويّةٍ متميّزة.

مدونة وطن "eSyria" التقت الشّاعرة بتاريخ 30 آذار 2014، وكان معها هذا الحوار:

هي من ذلك النّوع القادر -كما هو حال الشّعراء الكبار- على إنتاجِ خطابٍ شعريٍّ يستمدّ طاقته من النّوع ليمتدّ تأثيرُه إليه لاحقاً، وهي تكتب بلغةٍ شعريّةٍ لا تشبه سواها وهذا ما يشكّل سمةً لنصوصها عامّةً؛ حيث الخروج عن المألوف والابتكار المتواصل هما من دعائم شاعريّتها

  • هل اختارتكِ الكتابة أم اخترتِ عالمها؟ بمن تأثرتِ؟ ولماذا الشّعر في زمن الاستهلاك السّريع؟
  • في إحدى أمسياتها

    ** لم يكن الأمر اختياراً متعمّداً، أكتب منذ كنتُ طفلةً، أكتبُ عندما أحتاج أن أقول شيئاً، أكتب بدافع الشّغف، حين أغضب أو أحزن أو أحبّ، حين يؤثر فيّ أمرٌ عامّ أو خاصّ. في البداية كان الأمر غيرَ مُعلنٍ، ولا أحبّ مشاركته مع الآخرين لكنّ الأمر تغيّرَ منذ أعوامٍ. تأثرتُ بكلّ من قرأت لهم سواء كانوا كتّاباً عرباً أم أجانب، لكنّ الذي يؤثر فيّ أكثر هو الحالات الإنسانيّة التي أرصدها، أو التّجارب الشّخصيّة التي أعيشها.

    أمّا لماذا الشّعر؟ فلأنّه من بين فنون الأدب أكثرها إيجازاً وشاعريّةً وبلاغةً، إنّه خلاصة تعبيرٍ عمّا يختلجُ فينا من فرحٍ وأسى وألمٍ. إنّه عصارةٌ مكثّفة للمشاعر.

    مجموعتها "رسالة من بيدق ميت"

  • دراستك هي الهندسة المدنيّة، هذه علمٌ والشّعر أحاسيس وهواجس. ماذا أضافت إليك الهندسة شعريّاً؟ وهل من نقاط تقاطع بينهما؟
  • ** في أحد تعاريف علم الرّياضيّات: إنّه علمٌ يقودك إلى التفكير المنطقيّ السّليم، وأظنّ أنّ تعبيرك عمّا تريد قوله يحتاج إلى هذا المنطق السّليم. بكلّ تأكيد يفيدُ العلم، ولكنّ مشكلته أنّه يشغلك عن الأدب ويأخذ من وقتك. خلال دراسة الهندسة كنت أكتب أقلّ بكثيرٍ، وحتّى نوع القراءات اختلفَ الآن. تفرض عليك الحياة المهنيّة أن تكون ناجحاً في مجالكَ أيضاً. لا بدّ أنّ دراسة الهندسة أثّرتْ بشكلٍ كبير في الشّعر لكن دعني أخبرْكَ بأمرٍ ولَلْمفارقة كانت علاماتي في مادّة اللّغة العربيّة هي الأعلى في كليّة الهندسة. الآن أرتكب الأخطاء اللغويّة لأنتبه لاحقاً أنني أخطأتُ فأصوّب دون شعورٍ بالذنب، وأحمّل المسؤوليّة لِكمّ الواجبات الكبير البعيد عن الأدب والمُلقاة على عاتقي، ولا يجوز لي هذا التّبرير ربّما.

    الشاعرة عبير سليمان

  • أنتِ من فريق تحرير مجلّة "خوابي" الإلكترونيّة، ما مشروعها؟ وهل يمكن للورق الإلكترونيّ أن يكونَ بديلاً من الورق العاديّ؟ ألا تعتقدين أنّ الفيسبوك والإنترنت بشكلٍ عامّ يفسد عمليّة الإبداع ويهمّش آليّة التّلقي؟
  • ** مجلّة "خوابي" تريد أن تلقي الضّوء على أدبِ وتاريخ وفنّ وثقافةِ "سورية" في زمنٍ تردّى فيه كلّ شيء، فهي محاولةٌ كي ننجوَ بحضارتنا من الحرب والجهل في ظلّ غياب دور حقيقيّ وفاعلٍ يهتمّ بذلك، وهي مشروعٌ إلكترونيّ نأمل أن يتطوّر إلى مجلّة ورقيّةٍ تصدر بشكلٍ دوريٍّ مستقبلاً. ولا أظنّ أنّ الفيسبوك والإنترنت يفسدان عمليّة الإبداع، ورغم وجود ظواهر سلبيّة فيهما أعتقد أنّهما حاليّاً وسيلةُ التّواصل الأدبيّة الوحيدة المُتاحة في عصرِ ترهّلِ وزارة الثّقافة والإعلام، وتقصيرهما بحقّ مبدعي "سورية"، وبحقّ اسم "سورية" الكبير والمهمّ في مجال الأدب والثقافة.

  • نشرت مؤخّراً ديوانك الأوّل "رسالة من بيدق ميّت" وهو نثري، لماذا النّثر؟ وكيف أمكنكِ الإبقاء على خميرة الشّعر فيه؟ وكيف تقرئين العلاقة بين اللغة الشّعريّة وهموم الحياة اليوميّة وهموم الوجود؟
  • ** النثر لأنّه الأسلوب الذي أرتاح فيه لتقديم ما أريده دون تكلّفٍ. وخميرة الشّعر موجودةٌ في كلّ مادّةٍ تريد تقديمها، الأمر غيرُ مشروطٍ بقالبٍ -حسب رأيي- وهذا ليس هروباً أو تنصّلاً من أوزان الشّعر ولا تفعيلاته. أحبّ الموسيقا في الشّعر، ولكن أكره أن تكون الموسيقا فيه بغرض الموسيقا فقط، ولا أخفيكَ حاولتُ وأحاول أحياناً ضبط بعض النّصوص ضمن تفعيلات معيّنة، وأشعر بالغضب حين أجرّب لكنّي أفعلُ على سبيل التّحدّي، وقد أقدّم نصوصاً موزونةً رغم أنّها ليست هويّتي الشّعريّة. هموم الحياة اليوميّة تفرض نفسها على اللّغة الشّعريّة مرّة سلباً ومرّة إيجاباً، لكنّ جوانب الحياة كلّها -رغم أنّها لا توحي بذلك- ملأى شعراً.

  • في كتاباتك اشتغالٌ على الخصوصيّة الأنثويّة وكأنّك تكتبين ذاتك، هل هناك كتابة أنثويّة وأخرى ذكوريّة؟ وكيف تنظرين إلى النقد؟ هل هو حياديّ أم نقدٌ ارتجاليّ انطباعيّ يمدح ويُطري لا أكثر؟
  • ** ليس هناك اشتغالٌ متعمّدٌ على الخصوصيّة الأنثويّة. يكتب الرّجلُ دوماً دون أن نقول إنّه اشتغلَ على الخصوصيّة الذكوريّة؛ كلّنا نكتب إنسانيّتنا. وتتأثّر الكتابة بجنسنا حتماً، لكنني لا أؤمن بوجود كتابةٍ أنثويّة وأخرى ذكوريّة. فأنا أنشر بعضَ النّصوص بصيغة المُذكّر كي أقول إنّها لسانُ حالِ الإنسان بغضّ النّظر عن جنسِه. أكتبُ بصيغة المُذكّر حين أشعر بأنّ الرّسالة الإنسانيّة هنا تنسحبُ على الجنسين. النّقد يُطري ويذمّ ويرفع من شأن أشخاصٍ، ويبخس قدرَ أشخاصٍ. أحياناً يكون موضوعيّاً، وأحياناً يكون متأثّراً بسطوة الاسمِ أو منحازاً، وليس هناك قاعدةٌ بهذا الخصوص. المهمّ أنّي أحاول الانتباهَ إلى كلّ الملاحظات النقديّة التي أقرؤها والمُتعلّقة بكتابتي أو بكتابة غيري ولا أهملها أكيد.

  • الكتّاب كثرٌ في هذه الأيّام، الجميع يكتب وقلّةٌ تقرأ. كيف يمكن للشّعر أن يبتكر قرّاءه في وقتٍ يجنح فيه الجميع إلى المعرفة المجانيّة، وإلى الاستسهال في الإبداع وفي القراءة أيضاً؟
  • ** بالدّأب الحثيث والإخلاص لمشروعك ستقابل قرّاءكَ المنشودين حتماً، وهناك أمورٌ لا تستطيع شيئاً حيالها تقدّمها لك الحياة كالكاريزما والموهبة والشّاعريّة. ثمّة كتّابٌ رائعون لغويّاً لكنّهم غير قادرين على إثارة اهتمام القارئ، الجنوح إلى المعرفة المجانيّة والاستسهال حَدَثا لأنّه ليس لدينا مشروعٌ عامّ يهتمّ بتطوير أساليب التّعاطي مع الأدب، وربّما لو كانت لدينا تظاهراتٌ أدبيّة لائقة لتطوّرَ أسلوب تعاطي الجميع مع الأدب.

    الشّاعر "حسن سمعون" قال عن الشّاعرة "عبير": «تطرح الشّاعرة "عبير" أفكاراً ومواضيعَ جريئةً وربّما تتجاوز حدّ الجرأة؛ حيث استطاعت في معظم كتاباتها التّعبيرَ عن ظواهرَ مكبوتةٍ في قاعنا الثقافيّ، وهي تعرفُ أن تلتقطَ أيّ ظاهرةٍ أو معاناةٍ من فرحٍ وحزنٍ لتنقلها إلى مخابرِ نفسها وتعالجها برؤيتها الوجدانيّة لكي تعيدَ طرحَها في مُقاربةٍ شعريّةٍ عامّة. ولولا وجود من يجرؤ على الطّرح مثل "عبير" لماتَ الأدب بالاستنساخِ وصار كمومياء لا حياة فيها».

    الشّاعر والقاصّ "أحمد اسكندر سليمان" قال عنها: «هي من ذلك النّوع القادر -كما هو حال الشّعراء الكبار- على إنتاجِ خطابٍ شعريٍّ يستمدّ طاقته من النّوع ليمتدّ تأثيرُه إليه لاحقاً، وهي تكتب بلغةٍ شعريّةٍ لا تشبه سواها وهذا ما يشكّل سمةً لنصوصها عامّةً؛ حيث الخروج عن المألوف والابتكار المتواصل هما من دعائم شاعريّتها».

    من ديوانها "رسالة من بيدق ميّت":

    "غربة شاعر":

    "العالمُ مجنونٌ.. وأنت بكلّ رحابة صدرٍ تفتحُ البابَ حين يدقّ..

    العالم سكّيرٌ.. وتخلع عنه رياحَه لتعلّقها على مشجب القصيدة..

    العالم ساحرٌ.. وتأخذ منه قبّعته غير آبهٍ بالغيلان التي ستحلّق هاربةً منها!

    عند قدميكَ تستلقي ذئابُ الوحشة كقططٍ أليفة...

    على المنضدة التي تكتب عليها مزهريّةٌ فيها معاركك الملوّنة العابقة بالشّذى! سريرك غابةٌ.. أنفاسُك قوافٍ وغالباً ما تقتات على المجاز كي تعيشَ.. تكتب الحزنَ والحبّ والحربَ فيسمّونك "شاعراً".. ووحدكَ تعلمُ كم طوفانٌ يسكن حروفَ كلمة شاعر".

    يُذكر أنّ الشّاعرة "عبير سليمان" من مواليد "اللاذقية" 1974م، صدر لها ديوان "رسالة من بيدق ميّت" 2014.