تحتوي ملحمة "أقهات"، وهي ثالث الملاحم الأوغاريتية الهامة، على صراعات مكثفة بين الآلهة والبشر، كتعبير رمزي عن تغير أحوال الطبيعة، إضافة إلى دور الملك الكبير في طقوس إحيائها.

رويت قصة الملحمة في ثلاثة ألواح وجدت مكسرةً، وأمكن ترميم أجزاء كبيرة منها، ما عدا نهايتها. في بداية الملحمة، نجد "دانئيل" الحكيم معتكفاً في المعبد يقدم القرابين للآلهة ويتضرع إليها لتهبه ابناً يرثه، في اليوم السابع من اعتكافه وإقامته الطقوس، يظهر له الإله (بعل) مشفقاً عليه، ويتوسط لدى (إيل)، كبير الآلهة، ليزيل عنه لعنة العقم، فيستجيب (إيل) إلى توسلات (بعل)، ويبارك "دانئيل" الذي يذهب إلى بيته، ويجامع زوجته التي "تحمحم من ضمه لها"، ثم يولم لآلهة الحمل والولادة ستة أيام، اللواتي يدعوهن النص "بنات الهلال".

إن إطلاق مصطلح الملحمة على هذه النصوص يتضمن الأسطورة، بما فيها من الخوارق والسحر وعوالم الآلهة وعلاقاتها، وكذلك نجد وقائع الصراع بين تلك القوى سواء في العالم السفلي، أعماق الأرض أو في السماء، لقد كانت هذه النصوص جميعها تنشد في المواسم والاحتفالات الدينية وهي محفوظة في صدور الناس

يلي ذلك جزء مفقود من النص، يقص عن ولادة ابن لدانئيل دعاه "أقهات"، وكيف صار فتى صياداً، وعندما يغدو النص واضحاً للقراءة نجد "دانئيل" وهو جالس عند البوابة، يحكم بين الناس بالعدل، يزوره الإله (كوثر حاسيس) إله الحرف والصناعة، قادماً من مصر، وبيده قوس وعلى كتفه جعبة ونبال، فينادي زوجته "دانتيه" لتولم للضيف. يأكل (كوثر) ويشرب على مائدة "دانئيل"، وعندما يغادر، يهدي القوس والجعبة والنبال لـ"أقهات"، فيسلمها "دانئيل" إلى ابنه قائلاً: "إن بواكير صيدك يا بني ستكون قرباناً إلى المعبد".

تمثال لعناة من بلاد الرافدين

بعد نقص آخر في النص، نجد الإلهة (عناة) في وليمة، وعندما تعرض عليها القوس تندهش، وهي الصيادة الماهرة، وتتوق لامتلاكه، فتطلبه من "أقهات"، ولكنه يرفض طلبها، وتتمادى (عناة) في ترغيبه، فتعرض عليه الحياة الأبدية، والجنس معها، إلا أنه يرفض أيضاً، ويتجادل مع (عناة) التي تتعهد أنها إذا التقته، سوف تقتله قائلةً: «سأصرعك تحت قدمي يا أجمل الناس وأشدَّهم».

تشتكي (عناة) إلى (إيل) تصرف "أقهات"، وتطلب منه السماح لها بالانتقام، فيوافقها، بعد أن يطلب منها كبتَ ما في قلبها، وهو "الإله الرحمن، الفائقُ الرحمة"، وتعمد إلى محاولة قتل "أقهات" لأخذ القوس باستخدام خادمها "يطفان"، الذي تحوله إلى نسر، يقتل الخادم "أقهات" وتسقط القوس في البحر، فتبكي (عناة) سوء حظها وتتعهد بإعادة "أقهات" إلى الحياة.

رسم تصويري لمقتل أقهات

وفي هذه الأثناء جاء من يخبر "دانئيل" وابنته (فوغة) بموت ابنه، يبكي الملك عليه ويصيح: "سوف أصرع من قتل ابني، سوف أقضي على من قضى على ذريتي"، وبعد أن دفن بقايا ابنه الذي التهمته النسور، أقام في بيته مناحة، استمرت سبع سنوات، قدم في نهايتها ذبيحة إلى الآلهة، وصرف النساء الندابات، عند ذلك تقدمت منه ابنته ملتمسة إذنه لكي تنتقم لأخيها، فباركها وودعها.

تذهب (فوغة) للبحث عن خادم (عناة)، وعندما تجده عند أطراف البادية، يدعوها "يطفان" إلى الطعام والشراب، وتسقيه حتى تلعب الخمرة برأسه، ويأخذ في التباهي بقتل أخيها، يصعد الدم إلى رأس (فوغة)، فتهتاج هياج أسد، وتغضب غضب أفعى، وهنا يتهشم الرقيم الأخير، وينتهي النص فجأة دون أن نعرف نهاية القصة.

قصة تصويرية للملحمة

وفي حديث مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 19 آذار 2014 رأى الأستاذ "إبراهيم عموم"، مدرس اللغة العربية في ثانويات "اللاذقية"، أن البناء الدرامي لملحمة "أقهات"، لا يختلف عن غيره من ملاحم الشرق العربي الخالدة، وقال: «هناك تأثيرات متبادلة مع أدب الشرق العربي، تتجلى في وظيفة الملحمة الطقسية، والإيمانية، وهذا ما يزيد من قيمتها الجمالية والحضارية، أضف إلى ذلك، أن بنيتها الأدبية اليوم، مقارنة مع الأدب الراهن، تعلو في كثير من مواضيعها عليه، فهي مع كثافة كل ما فيها من أحداث، تشد المتلقي إليها، وتجبره على أن يلهث في انتظار معرفة الحدث التالي، بنيتها الدرامية متفوقة، وأميل إلى الاعتقاد أنها ليست نتاج فرد واحد، بل تراكم خبرات قديمة في الزمن».

ويقول الدكتور "فايز الداية" في معرض قراءته الأدبية للملحمة ورموزها وتفكيكها: «إن إطلاق مصطلح الملحمة على هذه النصوص يتضمن الأسطورة، بما فيها من الخوارق والسحر وعوالم الآلهة وعلاقاتها، وكذلك نجد وقائع الصراع بين تلك القوى سواء في العالم السفلي، أعماق الأرض أو في السماء، لقد كانت هذه النصوص جميعها تنشد في المواسم والاحتفالات الدينية وهي محفوظة في صدور الناس».

في ملحمة "أقهات"، يقول الدكتور "الداية": «يبرز الصراع بين رمز الخصوبة، ورمز العقم، وصراع الإرادات والمواجهة رغم التفاوت في القدرة بين "أقهات" و(عناة)، وتدور جميع هذه الصراعات، على دلالات الخصب في الطبيعة والكون ومجتمع الإنسان عبر صراع بتجليات متعددة، تنتظم بها دورة متكاملة للحياة والموت والنماء والجدب، ثم التواصل والعقوق بين أجيال البشر، وهكذا نجد التعبير الرمزي يتقارب ويتداخل مع الواقعي لينتج دلالات جمالية».

ويضيف الدكتور "الداية" قائلاً: «تبرز في هذه النصوص، الرمزية وامتزاج عالم الآلهة بالناسوتية، وعواطف البشر، وما يكون بينهم من روابط وخصومات، ونلحظ الدور الواضح والفاعل للمرأة في الأحداث وتطوير الصراع (عناة ـ فوغة)، وتبدو الملامح الدرامية في تركيز الصراع، والحوار الذي يدور بين الشخصيات في مواجهاتها، ولا يخفى الإيقاع الملحمي في المعارك، وفي طبيعة الإنشاد حيث تتكرر مقاطع منها مرات عديدة، لتأكيد الرؤى والإحساس بها جماعياً».

تعتمد جميع أشعار الأدب الأوغاريتي على بنية واضحة، تقترب كثيراً من تفعيلات الشعر العربي، حيث يتألف البيت من شطرين، وكل شطر من ثلاث تفعيلات، ويخضع اختلاف الوزن إلى عدد حركات الرفع والخفض في التفعيلة، وتقسم القصيدة إلى مقاطع يتناول كل منها معنى محدداً، وتعتمد الصورة الشعرية المؤثرة على تعدد الصفات وتلونها، على نحو يميل إلى المبالغة أحياناً، ولا سيما عند وصف الآلهة المؤنسنة من حيث عواطفها ونزواتها ورغباتها وعاداتها.

يذكر الباحث "نبيل حفار" في "الموسوعة العربية"، أنه يبدو من التواقيع التي تذيل بعض الرُّقم أن ملك أوغاريت "نيقمدو الثاني" (نحو 1350ق.م) قد أشرف بنفسه على تدوينها، إلا أن مؤلفها هو "إيلي ملكو Ili Milku" كاهن "أوغاريت" الأكبر، وقد صاغها بشكل دروس تلقى على أبناء الملك، كتوجيهات ومواعظ في الأخلاق والعقائد الدينية وفي السياسة والسلوك الشخصي، وهذا الملك انتهت في عهده "أوغاريت" بعد غزو شعوب البحر المفاجئ.

المصادر:

1- ملاحم وأساطير من "أوغاريت"، رأس الشمرا، أنيس فريحة، دار النهار للنشر، بيروت، 1980.

2- ملاحم وأناشيد أوغاريتية من أدب المشرق العربي القديم، د. فايز الداية، مجلة الكويت، العدد 365.