بأفكار غنيّة وبسيطة، استطاع "رامي غدير" أن يؤسّس مكاناً جعل من خلاله الزائر يلتقي روحه أو روحاً أحبّها، حيث نثر الطابع الثقافي الممزوج بالألفة والمحبة بينه وبين روّاد مقهى "قصيدة نثر"، الذي أصبح ذاكرة وارفة بوجوه الراحلين والباقين.

مدوّنة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 17 كانون الأول 2018، مع "رامي غدير"، فتحدث عن نشأته المعرفية وتكوين شخصيته قائلاً: «عشت في بيئة محافظة اجتماعياً، ولم يكن هناك مكتبة في المنزل؛ حيث كنا نكتفي بدراستنا من الكتب المدرسية، لكن يوجد مرحلة مفصلية في حياتي قبل بلوغي العشرين، حين أخذت كتابين من مكتبة صديق لي، وكان لهما دور في حياتي، ومثّلا نقلة نوعية لديّ، فكتاب "المعجم الفلسفي المختصر" كان مدهشاً بالنسبة لي بمصطلحاته ومفاهيمه، إضافة إلى كتاب "داروين"، كان هذان الكتابان بمنزلة صدمة بالنسبة لي؛ وجدت فيهما شيئاً غريباً ومختلفاً عن البيئة التي أعيش فيها، وتفاجأت بما يحتويانه، فقد حرّضا آلية التفكير لديّ، إضافة إلى حب القراءة والمطالعة. درست علم الاجتماع في "لبنان"، والفلسفة في "سورية"، ولم أكمل دراستهما، ثم قرأت لفلاسفة كثر وانتقلت لقراءة ما يتعلق بالروايات والشعر والأدب والنقد، فتبدلت رؤيتي للحياة وذاتي، وأصبحت أرى نفسي بطريقة مختلفة، فعندما أدرك معرفتي أدرك حجم الجهل الذي أنا به؛ وهو ما زاد توقي للمعرفة، وترافق معها اهتمامي بالموسيقا والسينما والرسم، وبذلك كوّنت مخزوناً ثقافياً ومعرفياً».

طوّرت نفسي من خلال القراءات الكثيرة، كما أن التضاد في الحياة يساهم في تكوين شخصية المرء، فأصبحت أملك ما يجعلني أدخل عالم الكتابة، وبدأت كتابة النص المفتوح والنشر في موقع "أوكسجين"، كما كتبت مسرحية بعنوان: "الرواية" للمشاركة بمهرجان "الفجيرة" الدولي، وهي تجربتي الأولىٍ، لكن كتبت بهدف الحصول على الجائزة، فأي عمل لا بدّ أن يقترن بالدعم المادي والمعنوي ليكتمل، وكنت من العشرة الفائزين في المهرجان

قراءاته ومخزونه المعرفيّ دفعاه إلى الخوض في غمار الكتابة، وقال: «طوّرت نفسي من خلال القراءات الكثيرة، كما أن التضاد في الحياة يساهم في تكوين شخصية المرء، فأصبحت أملك ما يجعلني أدخل عالم الكتابة، وبدأت كتابة النص المفتوح والنشر في موقع "أوكسجين"، كما كتبت مسرحية بعنوان: "الرواية" للمشاركة بمهرجان "الفجيرة" الدولي، وهي تجربتي الأولىٍ، لكن كتبت بهدف الحصول على الجائزة، فأي عمل لا بدّ أن يقترن بالدعم المادي والمعنوي ليكتمل، وكنت من العشرة الفائزين في المهرجان».

جانب من مكتبة قصيدة نثر

أخذ مقهى "قصيدة نثر" طابعاً ثقافياً منذ تأسيسه، وصار الحقيقة التي بدأت كدعابة، حيث تحدث "غدير" عن فكرة التأسيس والظروف المحيطة به قائلاً: «من المراحل الأجمل في حياتي هي مرحلة تأسيس مقهى "قصيدة نثر"، بدأت الفكرة عام 2008 كدعابة بيني وبين صديقي "بريء خليل" لفعل شيء، ولم نكن نملك المال لتأسيس مثل هذا العمل، لكن قمنا بنقل الدعابة إلى حقيقة، وأسّسنا المقهى. اقترح "بريء" أن نسميه "قصيدة نثر" من منطلق ما كنت أقوله إن (أمي أجمل من قصيدة نثر، فظلمتها الحياة كما ظلم النقّاد قصيدة النثر في الثمانينات)، فكان الاسم جاذباً وبدأنا العمل في مركز المدينة بين ساحة "الشيخ ضاهر" وشارع "8 آذار". بعد سفره كان لا بدّ من وجود شريك وصديق آخر يشبهني، فأكملت العمل مع "حسام بدرية"، فعلاقة الصداقة هي التي ضمنت استمرارنا، فقد أُسّس المقهى بداية بهدف التسلية والمتعة والضحك الذي يعدّ من أعمق معاني الحياة، فأي منجز شخصي وإبداعي لا يحمل المتعة هو إنهاك للعقل».

وعن نشاطات "قصيدة نثر"، يقول: «أسّسنا ضمن المقهى مكتبة مجانية تضمّ أكثر من ألفي كتاب من مكتبتنا الشخصية ومن الأصدقاء، حيث كان هدفنا التشجيع على القراءة ضمن المكتبة والإعارة الخارجية مجاناً، إضافة إلى أمسيات شعرية وموسيقية ومعارض فنيّة، وكنا امتداداً لحراك ثقافي في "اللاذقية" و"سورية"، وهناك شعراء وكتّاب كثر وقّعوا إصداراتهم ضمن المقهى، كما نوّثق زيارة روّاد المقهى بتصوريهم وتعليق صورهم على الجدران، ووضعنا لوحاً خشبياً لتعليق قصاصات يكتبون عليها ما يشاؤون من أقوال أو كلمات يختارونها، والمقهى مفتوح لأي نشاط يتعلق بالشأن الثقافي مجاناً، كما يوجد مكان خاص في المقهى لإصدارات الشعراء والكتّاب الجديدة لمن يرغب منهم بوضعها».

جزء من صور رواد المقهى

كما أن أسلوب "رامي" خلق نوعاً من الصداقة والحميمية مع المكان، حيث يقول: «كل زائر للمقهى يربطه شيء ما بهذا المكان الدافئ وأهمية ما يحدث داخل جدرانه من معانٍ إنسانية ومعنوية خلق ارتباطاً روحياً لهم بالمكان، وأصبحت الذاكرة ملأى بروّاده، وفعل الحياة الذي يحدث داخله مهم ويدل على نفسه، أقوم من خلال هذا المكان بإضاءة صغيرة على الثقافة قد تشجع الروّاد الشباب على القراءة، فالكتاب متاح لهم، وما قدمته لا يعني أنني قمت بالنهوض بالثقافة، لكن قدمت شيئاً في هذا المجال، وهدفي تقديم منبر لكل من يريد، وروّاد المقهى من كل المنابت الثقافية من شعراء وكتّاب وصحفيين وفنانين، وغيرهم من المهتمين بالشأن الثقافي، وشرائح مختلفة».

الصحفي "كمال شاهين" من روّاد مقهى "قصيدة نثر" تحدث عن أثر "رامي غدير" بالمحيط قائلاً: «فرادة "رامي غدير" في مدينة "اللاذقية" لم تأتِ فقط من أنه كان مؤسساً لأول مقهى ثقافي حقيقي في مدينة افتقدت طويلاً لمكان كهذا، بل لأنه استطاع أن يحافظ على مشروعه لمدة تجاوزت ربع قرن، وفي خضم الصراعات الفكرية والثقافية التي يشهدها المقهى -وما يزال- كان شخصاً ينصت بانتباه، قليلاً ما تورط في لعبة أو إغواء المكان الفردي الخاص به، لقد ترك مسافة ملأتها المدينة و"سورية" بأسماء مبدعين حولوا المكان ومعهم "رامي" إلى علامة فارقة في جغرافية المكان السوري، فاليوم وبسبب الحرب قد تفتقد الذاكرة السورية جزءاً من روحها، إلا أن حيطان "قصيدة نثر" تحتفظ بها معلقة في القلوب كما في الذاكرة».

كمال شاهين

ويتابع قوله: «تغيّر الروّاد كثيراً، منهم من هاجر، ومنهم من رحل، ومنهم من بقي معلقاً في فوانيس المدينة، إلا أن "رامي" بقي هنا علامة سوريّة فارقة تجدها ليس على حيطان المقهى فحسب، بل في الرائحة التي تفوح في العين والقلب والروح ما إن تطأ المكان، وفي سعيه الدؤوب لخدمة الثقافة ومشروعه بقي محافظاً أيضاً على احترام الثقافة؛ فلم يتاجر بها، ولم تكن عبّارة له لارتكاب معصية الأنا، على العكس، فقبل عامين طرح مشروعاً ثقافياً بدا أنه يتيم الأب والأم، إلا أنه أكمله بشجاعة وصبر أيوب؛ مشروع "واحد فاصلة واحد" لنشر الكتب للمبدعين غير القادرين على النشر، كان يفترض أن تتبناه جهات عدة تدعي الثقافة، لكن بالإجمال بقي وحيداً في صراعه مع الحلم، ويستحق "رامي" منا كأشخاص وأصدقاء وسام المحبة، وسام الصبر، ووسام العشق الذي لا يكلّ ولا يملّ من زراعته على شرفات قصيدة نثر لا مرئية».

يُذكر، أن "رامي غدير" من مواليد قرية "العليميّة" التابعة لناحية "عين البيضا"، عام 1978.