لاسمها على أي كتاب مترجم قيمة مضافة تدفع من يقرؤه للاطمئنان أن ما سيقرؤه مشتغل عليه بعناية ومودة، هاتان الصفتان هنا ليستا أنثويتين بقدر ما هما احترافيتان ودقيقتان.

حين أقدمت "روز مخلوف"، خريجة الأدب الفرنسي من جامعة "دمشق" والقادمة من الصحافة الثقافية، على ترجمة أول عمل روائي، اختارت أن يكون قامة روائية عالمية هي "أمين معلوف" في عمله المهم "القرن الأول بعد بياتريس"، ومع هذا الكتاب اعتبرت أن الترجمة عملٌ سوف يقترن اسمها به.

لو أردت أن أكتبه بالعربية لما استطاع أن أكتبه بطريقة أفضل من ترجمتها له

سبق لـ"روز مخلوف" قبل تخرجها أنها ترجمت عدة مقالات ودراسات نشرت في الصحافة السورية، ومنها ملحق "الثورة الثقافي" الذي كان حينها منبراً ثقافياً حقيقياً في أيام السبعينيات، وتقول في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 26 آذار 2015: «دخولي إلى عالم الترجمة بدأ قبل التخرج بمساعدة شاب أصبح لاحقاً شريك حياتي، الكاتب "حسن م. يوسف" كنت قد تعرفته حديثاً، وكان يحضر لي مجلات ودوريات أجنبية بغرض التودد لي، وفي الوقت نفسه أوحى لي بالفكرة، وأذكر أنه بعد أول ترجمة لدراسة نشرت لي في الملحق الثقافي لجريدة "الثورة"، توقع "حسن" أن أقفز من الفرح لرؤية المادة منشورة بشكل لائق في الملحق، وقال لي: (احترموكِ.. فأجبته: احترموا حالهم)».

مع الكاتب حسن يوسف

مع "بياتريس" تغيرت علاقة "روز" مع الترجمة فربطتها معها في سلسلة ترجمات مميزة لعناوين شكلت مفاصل في علاقة القارئ العربي مع الكتاب المترجم، تقول: «للمفارقة كانت "بياتريس" هي الوحيدة التي قرأ "حسن" قسماً منها قبل الطباعة، وبطلب مني، وذلك بعد تلف جزء من الملف في حاسوبي الذي كان متخلفاً نسبياً، فساعدني على استعادة ما أمكن منه، واضطررت لإعادة ترجمة الباقي؛ ولشدة خشيتي من أن يكون ارتباكي قد أثّر في الأداء، طلبت منه أن يقرأه، وبعد أن أنهى المقطع جاء وقبّل يدي».

جودة المادة المترجمة هي بحد ذاتها مغامرة مرتبطة باسم الكاتب المترجم له، فروائيان كـ"معلوف" أو "ابن جلون" يوجد لهما مترجمون على مستوى عالٍ من الجودة شبه معتمدين ينتظرون أعمالهما فور صدورها، تقول عن سياق ترجمتها لرواية "الخلود" لـ"كونديرا": «في معظم الأعمال التي ترجمتها، كل منها وضعني مع هذا القدر أو ذاك من المغامرة وحبس الأنفاس، ولن أصف لك حجم الشعور بالمغامرة مع "إكزوبيري وديدرو".

عينة من ترجماتها

مع رواية "الخلود" راكمت خبرة لا بأس بها؛ حيث كنت مستمتعة بتلك التجربة أكثر مما كنت متهيبة منها، إضافةً إلى وقوعي كقارئة في غرام ذلك الكاتب، واللافت أن صعوبتها كمادة للقراءة أولاً، لم يمنع من وجود إقبال عليها بين متلقين من النخبة كما لمست شخصياً، مقارنةً بعمل آخر مثل "الراهبة" لـ"دنيس ديدرو"، وهو عمل ذو رسالة فكرية في قالب روائي مؤثر جداً.

ليس هناك منهاج يحدد جودة الترجمة أو طرائقه، فالترجمة أمر مرتبط بالمترجم والكاتب في آن معاً، تقول: «الترجمة هي أن تستوعب العمل ككل أولاً، تستشعر تفاصيله وتنجح في تلمس الصور التي رسمها المؤلف للأماكن والأحداث والشخصيات وتلتقط أسلوبه اللغوي، أهو ساخر، أم لاذع، أم شاعري؟ المهم أن الشحنة ستصل إليك حتماً إذا أجدت القراءة، ليبدأ عمل المترجم الذي تَمثَّل المادة تماماً فيعمد إلى إعادة صوغها بأدواته المعرفية واللغوية، بلا تأويل أو "فذلكة" أو إضافة أو إغفال بطبيعة الحال».

آخر ترجماتها

في اختيارات الكتاب المترجم إشكالية أخرى، على أن هذه مسؤولية الناشر بوجه أساسي، يتضح ذلك من تجربة "روز" مع ناشرها، وذلك «لسبب بسيط وأساسي أنه وحده من يستطيع أن يؤمّن حقوق المؤلف أو دار النشر الأجنبية التي يجب أن تتنازل له عن حقوق الترجمة، خاصة أن أجور الترجمة في بلدنا متدنية جداً مقارنةً مع دول العالم وحتى مع دول الجوار، ولا تسمح لمترجم أن يمنح نفسه ترف اختيار الكتب واستقدامها لترجمتها، خاصةً إذا كانت إصدارات حديثة، ولولا وجود دور نشر تشتري حقوق الترجمة لما نشطت حركة الترجمة.

إذن، باستثناء "إكزوبيري" و"راهبة" ديدرو و"بابل" و"الكتاب المقدس"، كافة الأعمال الأخرى كانت بفضل مساعي الناشر الدكتور "مجد حيدر" صاحب دار "ورد"، وأحببتها كلها لكن بنسب متفاوتة، وكلها جديرة بالترجمة».

اهتمام القارئ العربي بالعمل المترجم أكثر منه بالعمل المحلي هي ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى بحث، وعن ذلك تقول "مخلوف": «أحد أسبابها يكمن في كون العمل المترجم يقدم للقارئ مادة جرى إنتاجها بعيداً عن أي "فلاتر"، سواء "فيلتر" الرقيب الرسمي أو الرقيب الذاتي المكتسب بحكم الموروث الثقافي، وإذا كانت القراءة تمثل ملاذاً فالأحرى أن يكون هذا الملاذ منعتقاً من القيود ومنفتحاً على آفاق جديدة.

كما أن حركة التأليف عندنا لم ترقَ بعد إلى مستوى يمكّنها من استقطاب طيف واسع من القراء، من ناحية أخرى يُلاحَظ أن المتلقي المحلي السائد يميل إلى الاستسهال ويفضل الكاتب المضمون أي النجم، فيمعن بذلك في تكريس نجوميته، هكذا تصبح خيارات هذا المتلقي محددة سلفاً تقريباً لأنه لن يخاطر -إذا جاز التعبير- ويذهب إلى أسماء يجدها غير مضمونة لكونه لم يسمع بها».

شهادات كثيرة قيلت في ترجمات "روز" أجمعت كلها على حضورها في ترجماتها، يحضر هنا ما قاله "عبد اللطيف اللعبي" الشاعر المغربي الذي عمل على دعوتها إلى معرض كتاب "كازابلانكا" لحضور إطلاق كتابه "شاعر يمر" بالفرنسية مع ترجمته العربية، ويقول: «لو أردت أن أكتبه بالعربية لما استطاع أن أكتبه بطريقة أفضل من ترجمتها له».

في حين يصفها الكاتب "حسن م. يوسف" زوجها وشريك عمرها بالقول: «لا تستسلم لمعارفها المسبقة بمعاني الكلمات، بل تواصل التنقيب في ظلال اللغة إلى أن تعثر على المفردة التي تستكمل بها إحساسها بروح المعنى، أبرز ما يميزها غلبة قلق المبدع عندها على حرص المترجم، وهو ما يمكنها من جمع الدقة إلى حسن السبك وهذا ما يجعلها، برأيي، واحدة من خيرة المترجمين الذين أعرفهم».

تتابع المترجمة عملها في "الهيئة العامة السورية للكتاب"، وحالياً تشتغل على ترجمة كتاب "القلعة" لـ"أكزوبيري"، آخر ترجماتها "المثقفون المزيفون"، وحصيلة ترجماتها تنوف اليوم عن خمسين كتاباً لكبار المبدعين في العالم.