قيل الكثير من الكلام ودبّجت آلاف الصفحات في أصول اللغات، خاصة تلك التي نبتت في أرض المشرق العربي، فهي أصل اللغات الأخرى، إلا أن للباحث "منير صبح سعيد" رأياً مغايراً صاغه بنظرية لغوية جديدة.

الباحث "سعيد" خريج قسم اللغة العربية بجامعة "دمشق" عام 1970، وهو مدرس ومؤلف وباحث في شؤون اللغة العربية، وقد توصل إلى رؤية جديدة في أصل هذه اللغة، فهي أصل كل اللغات الحديثة، فعلى أي أساس بنى نظريته هذه؟ وما هي الدلائل الأثرية واللغوية التي اعتمد عليها في صياغة نظريته التي أثارت جدلاً واسعاً هنا منذ نشرها قبل عدة سنوات؟

العربية لغة قمرية مبنية على الشهر القمري، فهناك ثمانية وعشرون حرفاً، لكل يوم في حياة القمر مقابله الرمزي في الأبجدية، أعني تلك التي تبدأ بالترتيب "أب ت ث ج،..."، وقد بنيت العربية على المقاطع مثلها مثل شقيقاتها المبكرات (السومرية، والأكادية، والأوغاريتية)، ولكن الأبجدية العربية لم تشتق من أبجديات الشمال العربي، بل من أبجدية اليمن المسندية، التي نشأت في القرن التاسع ق.م، تطورت عن الخط المسند اليمني الذي يشبه جداً في ترتيبه وحروفه الأبجدية العربية، وأعتبرُ أنها تطورت مستقلة عن شقيقاتها الشماليات

مدونة وطن “eSyria” حلت ضيفاً على الباحث "سعيد" بتاريخ 28 تشرين الأول 2014 في منزله، وقد بدأ الرجل حديثه بتعريف للنظرية التي طرحها وأسباب طرحها، فقال: «كثير من قراءاتنا لتاريخنا ما قبل الإسلام، وهي حقبة تاريخية غنية جداً خلاف القول الإسلامي بجاهليتها، مرجعياتها ترجمات عن اللغات الأجنبية، معتمدين على طروحات قدمتها بعثات أثرية للمنطقة منذ أكثر من قرنين، ولا يخفى علينا أن هؤلاء الباحثين لا يعرفون المنطقة حق معرفتها، فهذا التاريخ بعيد عنهم فكرياً وحضارياً، عدا أن كثيرين منهم اندفعوا إلى العمل ليثبتوا صحة أحداث "التوراة" التي اعتبرت المرجع التاريخي الأوحد لكثيرين منهم، إلى درجة ثني عنق التاريخ للمطابقة مع أحداثه وقصصه، وخاصة في محاولات تفسير أسماء شعوب المنطقة وأماكن انتشارها الحضارية، والأهم إعطاء الأفضلية للعبرانيين المفترض أنهم أجداد اليهود الحاليين في كل شيء، وإثبات أنهم كانوا شعباً له حضارته في أرض "فلسطين" التاريخية، في حين عجزت الأبحاث الأثرية عن إثبات أمر واحد من كل ما ورد في التوراة، عدا الإصرار على مركزية الحضارة الأوروبية وأزلية الحضارة الإغريقية».

غلاف كتابه "العربية أم اللغات"

هذا المدخل كان ضرورياً لإعادة البحث في تاريخ اللغة العربية، وبعلاقتها مع غيرها من اللغات، يفترض الباحث "سعيد" أن العربية هي (لغة قمرية مقطعية وليست شمسية اشتقاقية)، في تفسير ذلك يقول: «العربية لغة قمرية مبنية على الشهر القمري، فهناك ثمانية وعشرون حرفاً، لكل يوم في حياة القمر مقابله الرمزي في الأبجدية، أعني تلك التي تبدأ بالترتيب "أب ت ث ج،..."، وقد بنيت العربية على المقاطع مثلها مثل شقيقاتها المبكرات (السومرية، والأكادية، والأوغاريتية)، ولكن الأبجدية العربية لم تشتق من أبجديات الشمال العربي، بل من أبجدية اليمن المسندية، التي نشأت في القرن التاسع ق.م، تطورت عن الخط المسند اليمني الذي يشبه جداً في ترتيبه وحروفه الأبجدية العربية، وأعتبرُ أنها تطورت مستقلة عن شقيقاتها الشماليات».

يشير الباحث إلى أن الأحرف اللثوية الثلاثة (ث، ظ، ذ) لا تتواجد إلا في العربية الفصحى والمسند وأبجدية أوغاريت، وتتكون أبجديتنا الحالية وأبجدية المسند من نفس الحروف، فالحاء والدال والذال لا تأتي بهذه الطريقة اللفظية إلا فيهما بدلالة ترتيب الحروف المسجوعة متجاورة هنا (ص، ض، ط، ظ....) ولا ترد مثل هذه الحروف لا في السريانية ولا في غيرها.

مخطوط "معجم الخصوبة"

يقول الباحث "سعيد" إن الكثيرين من الباحثين يقولون إن العربية لغة الضاد، ولكن لم يقدم أي منهم تفسيراً لهذا الأمر، وحقيقة إذا ما انتبهنا أن عدد الحروف القمرية أربعة عشر حرفاً، وأول دائرة في الأبجدية العربية هي (ص)، وتتكون من الدائرة والهلال (القمر البدر) وترتيبه الرابع عشر، أي يوم اكتمال القمر بدراً، ويليه (ض، ط، ظ)، وهي أحرف البدر الأربعة التي تتساوق مع أيام البدر من الرابع عشر حتى السابع عشر، حرف الضاد هو في المسند نافذة شطرت عرضانياً (أشبه بحرف B) وكان البدر يسمى نافذة السماء التي تشع النور، ومن حولها الظلام، وفي العربية هو دائرة وهلال ونقطة.

لماذا كانت العربية لغة مقطعية مع أن كثيرين من العلماء يقولون إنها اشتقاقية كابن منظور وسيبويه وابن نفطويه وغيرهم، يقول الباحث: «لقد أحصيت الأصوات الثنائية ذات المقطع الواحد في العربية، في معجمي (لسان العرب، والمحيط) فوجدت أنها تزيد على 660 صوتاً تتكون منها كل الكلمات في لغتنا، وهذه الجذور بكاملها أعطت دلالات خصوبية، ولم يشذ عن ذلك جذر واحدٌ في العربية، والمعجمان هما أكمل معاجمنا كما هو معروف.

الخط المسند مع العربية

يقصد الباحث بالدلالات الخصوبية، تلك المتعلقة بالحياة والرزق والسعادة والحماية والطبيعة، وهذه بمجملها يعتقد أنها كانت منحاً من إله الخصوبة، بعل وإيل في أسمائه المتعددة التي منها الثور، ونلاحظ غزارة كبيرة في الكلمات المرتبطة بهذا الكائن، آخذين بالاعتبار أن الأقدمين ربطوا بين آلهتهم والقمر أكثر من الشمس، والقمر في اللغات القديمة في أغلبه مذكر، بينما الشمس مؤنث.

يذكر الباحث في كتابه: "لماذا كانت العربية أم اللغات؟" أمثلةً كثيرة تؤيد مذهبه، يقول مثلاً في تفسير اسم "عين ترما" وهي قرية قرب "دمشق": "يتكون الاسم من (عين، تر، ما)، فالعين تعني الأمير، كما تعني العين الباصرة، ونبع الماء أيضاً، وقد سمى المصريون إله الخصوبة (عين السماء)، وتر هي الثور، و(ما) هي الماء، ولليوم نقول في العامية (مي)، فيكون المعنى خصوبياً مرتبطاً بالماء والثور إله العواصف والبرق (يسمى إيل في ثقافة أوغاريت راكب الغيم ومانح الصواعق والخير والمطر).

يعمل الباحث "سعيد" على إنجاز معجم ضخم، أسماه "معجم الخصوبة"، يتابع فيه تأكيد نظريته في خصوبية العربية وفي مقطعيتها، ويتجول فيه بين مختلف لغات العالم ليؤكد صحة ما ذهب إليه من أن العربية أمّ كل اللغات.