رجل ريفي أشبه ما يكون بالأرشيف الناطق، تمضي معه ساعات وساعات دون أن تشعر بمرور الوقت؛ وهو يحدثك عن الريف وتراثه الجميل والغني بحكايات الأجداد.

يلقبه معارفه بالمختار مع أنه لم يتقلد هذا المنصب يوماً، فهو ابن "المختار" السابق لقرية "معرين"، ووالد المختار الحالي، وفي ذات الوقت هو "مختار المخاتير" بذاكرته وأرشيفها.

التاريخ منقوش في ذاكرتي، وأحفظه وأحافظ عليه من خلال نقله لكل المحيطين بي والمهتمين به

مدونة وطن "eSyria" التقت في 30 آب 2014، خلال زيارتها لقرية "معرين" في ريف "جبلة"، السيد "آصف زهرة" الذي سرد لنا الكثير من مسيرته وحكايات قريته، حيث يقول "زهرة": «في طفولتي كنت متميزاً عن محيطي بصفتي ابن "المختار"، وقد عرفت بفصاحتي حتى إنني كتبت (القرادة) في الصف السابع، وتعلمت في مدارس "معرين والدالية"، وأذكر أنني كنت أحمل معي عوداً من الحطب كجميع زملائي لكي نتدفأ به، وحين العودة إلى المنزل نجلس جميعاً في غرفة واحدة تحت ضوء السراج؛ الذي لطالما درست معتمداً على نوره الذي لم يكن يتيح رؤية جيدة».

"آصف زهرة"

من طرائف تعليم "زهرة" أنه كان يدرس متمدداً على الأرض ويقوم ببري قلم الرصاص من الجهتين، حتى إذا ما نام أثناء الدارسة وانخفض رأسه يرتطم بالقلم من جهة تنخزه؛ فيستيقظ مسرعاً.

مدرس واحد كان يعلم كل طلاب المدرسة بحسب "زهرة" الذي يضيف: «كان الأستاذ يكلفني وزميلي بجولة مسائية على بيوت الطلبة لتفقدهم إذا كانوا يدرسون أم لا، كثيرون منهم كانوا ملتزمين، لقد كان توجه القرية كلها منصباً نحو العلم، والاهتمام به، حتى إنهم لطالما اهتموا بالأستاذ من شدة تقديرهم لما يقدمه».

حياته في كنف والده "المختار" كان لها أثر إيجابي كبير بالنسبة له، وهو يوضح ذلك قائلاً: «في تلك المرحلة عشت مع رموز الفكر والمعرفة في هذا الريف، واستمعت لعلومهم وأحاديثهم في مجلس والدي، وقد طبعت في ذاكرتي إلى الأبد، هذا الأمر نتج عنه ذاكرة حديدية وتعلقاً كبيراً بالوسط الذي أعيش فيه».

أثر علاقته بوسطه يبدو واضحاً بمجرد زيارته في مكان عمله ضمن بلدية "الدالية"، حيث يقول "فارس هلال" معلقاً على شخصيته: «إنه يحب أهل قريته كثيراً ويوليهم اهتماماً خاصاً في البلدية ويتابع قضاياهم واحتياجاتهم، ويلعب دوراً اجتماعياً مهماً في مساعدة الآخرين».

"معرين"

درس ”زهرة” الأدب العربي في جامعة تشرين، ثم اتجه إلى "إيران" لدراسة الشريعة؛ وبسبب الظروف عاد إلى "دمشق" لإكمال دراسته فيها على شكل بعثة داخلية، لكنه لم يستمر طويلاً واختار الالتحاق بالكلية الحربية كطالب ضابط، وهو يقول متحدثاً عن مرحلة ما بعد الكلية: «ما هي إلا سنوات حتى تسرحت من الخدمة بداعي الصحة، وانتقلت للتعليم في محافظة "الحسكة"، حيث بقيت هناك لعامين قبل أن أعود إلى القرية التي أحب وأعشق كمدرس يعلم التلاميذ فيها، وتربطه بهم علاقة روحية تفوق الوصف».

ويضيف نجل مختار "معرين" السابق، ووالد مختارها الحالي: «أمضيت حياتي التعليمية بين قريتي "معرين وبطموش"، كنت أذهب كل 3 أيام من الأسبوع إلى "بطموش" تحت الأمطار والثلوج والعواصف، واللافت أنني كنت أنطلق من منزلي على وقع نشرة الأخبار الصباحية؛ حيث أضع الراديو قرب أذني وأمضي مسرعاً، لأصل إلى المدرسة مع انتهاء نشرة الأخبار وبداية النشرة الجوية».

عاش "زهرة" حياةً غنية بالمشقة والصعوبات حتى يؤمن قوت يومه، وعائلته المكونة من زوجتين وعدد كبير من الأبناء، وقد اشتهر بسرعته الكبيرة في الحصاد، حيث يقول: «كانوا يرسلون خلفي عاملاً لكي يربط "شميلات" القمح، ولم يكن يتمكن من مسايرتي؛ حيث كنت أسبقه بأشواط».

الرجل المبدع بالحصاد كان يخصص وقتاً كبيراً من موسم الحصاد لمساعدة جيرانه: «بعد الانتهاء من حصاد محصولي، كنت أتجه على الفور لمساعدة أهل القرية مجاناً خصوصاً الذين تأخروا بالحصاد، وعليهم أعباء كبيرة فيه».

يعد "زهرة" أرشيفاً ناطقاً؛ فهو يحفظ تاريخ قريته وقصص وحكايات الأجداد فيها، حتى إن القرى المحيطة تلجأ إليه في حال الحاجة للحصول على معلومات تاريخية أو تراثية، وهو يفخر بذلك، ويقول: «التاريخ منقوش في ذاكرتي، وأحفظه وأحافظ عليه من خلال نقله لكل المحيطين بي والمهتمين به».

زوجته "نور الهدى محمود" تقول: «أحب علاقته بالآخرين وصبره في مساعدة المحتاجين، ومن المواقف اللافتة أنه في إحدى المرات كان عائداً إلى المنزل فوجد سيدة كبيرة بالسن في الطريق تشتمه دون أن تعرفه؛ فتوقف لسؤالها ماذا حل بها، فكان جوابها إنها لم تحصل على حصتها من المساعدات الموزعة أمام منزله، فما كان منه إلا أن أعطاها كل ما في جيبه من نقود، وكان ذلك في أواخر الشهر، وعندما وصل إلى المنزل روى لي ما حدث، فضحكت وقلت له: لقد أعطيت هذه السيدة كل مؤونتنا من البرغل والقمح، فضحك كثيراً وسخر مما حدث».

مجلسه غني بالمعلومات التراثية والتاريخية، هذا ما تقوله "بسمة فرحات" التي زارت "معرين" في جولة تعريفية، وتضيف: «أمضينا ساعات طويلة برفقته، أطلعنا خلالها على القرية ومعالمها، إنه يحفظ كل شاردة وواردة، وعندما استضافنا في منزله عاد بنا من خلال أحاديثه إلى التراث الجميل وعبق الأجداد، إنه يمتلك أرشيفاً مذهلاً».