"عيسى الجنيدي"، حفظَ أوّلَ ديوان شعرٍ غيباً، وهو في الثانية عشرة من العمر، وظلّ وفيّاً للكتاب والقراءة منذ ذلك الوقت، ولكنّ قريحته لم تسعفهُ بكتابة الشّعر إلّا بعد تقاعده من التّدريس.

مدوّنة وطن "eSyria" التقتِ الأستاذ الشّاعر في قريته "الكريدية" في ريف "جبلة" بتاريخ 19 آب 2014، حيثُ تحدّث عن بداياتِ حبّه للشّعر والقراءة بالقول: «ولدتُ في منزلٍ عاشقٍ للحكمةِ والأدب، حيث كان والدي رحمه الله عاشقاً ومحبّاً للشعر، وأذكر أنّ أوّلَ بيتِ شعرٍ سمعته منه هو بيت الشّاعر المتصوّف "ابن الفارض":

بقي الكتاب رفيقي منذ الطّفولة، ولا أستطيع أن أمشي أو أزورَ صديقاً دون أن يرافقني كتابٌ أو مجلّة أدبيّة، ولذلك يطلق عليّ معظم أهل قريتنا والقرى المجاورة "أبا الكتب"، وكم يسعدني هذا الوصف

"شربنا على ذكر الحبيب مُدامةً... سكرنا بها من قبل أن تُخلقَ الكرْمُ"؛ جعلني سماعي لهذا البيتِ أبحثُ عن مصادر الأدب الرّفيع، وبالفعل لقد حفظت ديوان "ابن الفارض" بكامله لاحقاً، ولكنّ أوّل ديوانٍ حفظته بكامله، هو ديوان الشّاعر "منتجب الدّين العانيّ" وأنا ابن الثانية عشرة من العمر، مُستفيداً من وجودي منفرداً في إحدى مزارعنا البعيدة عن البيت، حيث العمل صيفاً».

في لحظة قراءة

وعن البدايات الّتي لعبتْ دوراً مهمّاً، في تكوين ذائقته الأدبيّة، يُضيف: «في المرحلة الابتدائيّة تتلمذتُ على يد الأستاذ الفاضل "جمال خضّور" الّذي كانت الثّقافة ولا تزال شغله الشّاغل، ومنذ تلك الفترة، وأنا مهمومٌ بالقراءة والثّقافة النّوعيّة، حيثُ كان يلمحُ في ذلك التلميذ، النّباهةَ وسرعةَ التقاطِ الأفكار. وكنتُ محظوظاً أكثر عندما انتقلتُ لدراسة الصّفّ السّادس الابتدائيّ في مدرسة "القطيلبيّة"، لأجدَه مدير المدرسة، حيث كان يجعلني أقف على الكرسيّ لأقرأ الشّعر، ومع تقدم العمر نشأتْ بيننا صداقةٌ لا تزال عُراها وثيقةً حتّى الآن. ومن عباراته الّتي لا أنساها في مدحهِ لي؛ جملته المحبّبة: "علّمتك فسبقتني"».

نال الشّهادة الثّانويّة فكانت كافيةً له ليصبحَ مدرّساً بالوكالة، وعن تلك المرحلة، وأثرها الثّقافيّ قال: «نجحتُ بـ"البكالوريا" وكانت علاماتي قليلة، ولا أخجل من هذا. وقد خوّلتني هذه الشّهادة لأعلّم في مدرسة القرية، وأتفرّغ للعلمِ والتّعليم، حيثُ كنتُ معلّماً في النّهار، وطالباً في اللّيل، أقضيه في البحثِ والقراءة؛ فقرأت في هذه المرحلة للشعراء: "أحمد شوقي"، و"أبو نوّاس"، و"المنفلوطيّ"، و"جبران"، و"المكزون"، و"نديم محمّد"، و"المتنبّي"، و"المعلقات السبع"، و"زهير بن أبي سلمى"، وكان لـ"القرآن الكريم" الحصّة الأكبر، فتوثّقت علاقتي بشكلٍ كبيرٍ مع اللّغة العربيّة، ودعمتُ كلّ هذا بمتابعتي للمجلات الأدبيّة، وخصوصاً مجلّة "المعرفة" السّوريّة، ومجلّة "العربي" الكويتيّة».

على الرّغم من شغفه بالشّعر والشّعراء، إلا أنّ قريحته لم تسعفه في قول الشّعر، إلى أن بلغَ السّتين من العمر، وعن ذلك يقول: «عندما تقاعدتُ من العمل التّدريسيّ بكيتُ لفراق المدرسة، وكتبتُ وقتَها في عيد الحبّ قصيدةً على شكلِ رسالةٍ إلى حبيبتي، وهي المدرسة، ولا تزال هذه القصيدة موجودةً في معظمِ مكاتب مديّريّة التّربيّة في "اللاذقيّة"، وكانت هذه القصيدة بمنزلة المُفتتحِ لي، قكتبتُ عن المعلّم والأمّ والوقت والحبّ، وكتبتُ الرّثاء والهجاء، ونشرتُ العديدَ من القصائد في صحيفة الوحدة، وأقمتُ العديدَ من المحاضرات في المراكز الثّقافيّة في "جبلة، والقطيلبيّة، وعين الشّرقيّة". ومن أهمّ مُحاضراتي: "جمال الكون، وفساد البيئة"، و"جمال العربيّة، وأسرار الحروف"، و"الحبّ والحياة"، وقد حققتُ بسبب ذلك شهرةً مقبولةً في الوسط الأدبيّ في محافظة "اللاذقيّة"».

وختم حديثه بالقول: «بقي الكتاب رفيقي منذ الطّفولة، ولا أستطيع أن أمشي أو أزورَ صديقاً دون أن يرافقني كتابٌ أو مجلّة أدبيّة، ولذلك يطلق عليّ معظم أهل قريتنا والقرى المجاورة "أبا الكتب"، وكم يسعدني هذا الوصف».

الطّبيب الشّعبيّ "محمّد الجنيدي" قال: «لم يكنْ أخي فقط وإنّما كان رفيق صباي، فقد ركضنا معاً في شوارع القرية الترابيّة، وعملنا في الحقل معاً، وتأثّرنا بما قدّمه لنا الوالد من خبرةٍ وحكمةٍ وثقافةٍ عامّة وأدبٍ؛ ممّا صبغنا بصبغةٍ علميّةٍ أدبيّة،ٍ ولكنّ الأدبَ أخذه أكثر منّي، وبقي مشدوداً إليه بقوّة، وهو دائماً يدعم آراءه بقول مأثورٍ أو بيتِ شعرٍ، وهذا ما جعله محطّة مهمة في نظر الشّباب الرّاغبين بالمعرفة والقراءة، حيث تتحوّل مكتبته إلى مكتبةٍ عامّة في أغلب الأوقات».

رئيس المركز الثّقافيّ في "القطيلبيّة" السّيّد "علاء محمّد" قال: «عندما يُقال إنّنا "أمّة اقرأ"، أو"خيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ"، وكنتَ تعرفُ الأستاذ "عيسى"؛ تظنّ أنّ هذين القولين لم يُقالا إلّا له. إنّ ما يميّزه هو نهمُه للقراءةِ؛ فإذا أهديتَه كتاباً أو أعرتَهُ إيّاه، كأنّما قدّمتُ له وجبةً دسمةً، وتراه يقرأ، ويحلّل ما بين السّطورِ، كمن يكسرُ العظمَ لينال اللّبّ. وإذا قلبتَ جيوبه وجدتَها فارغةً كحالِ كلّ المثقّفين، وإذا دخلتَ إلى ثنايا قلبه وعقلهِ وجدتَ الدرّ الثمين الّذي هو بغيةَ كلّ طالبٍ، فإذا تغزّلَ ذبتَ رقّةً وعذوبةً، وإذا تحدّثَ حديثاً أبلغَ فيه وأوجزَ، فهو حالة فريدة في زمنٍ نحنُ أحوجُ فيه للكثيرِين من أمثاله».

من أشعاره:

"علِقَ القلبُ خيالاً

ذا تويجاتٍ نديّةْ

إنّها بنتُ بلادي

نسجتْ ثوبَ القضيّةْ

طرّزتهُ، وشوشتْهُ

بحروفِ الأبجديّةْ

هيَ ذاتٌ كخيالٍ

طافَ أنحاءَ البريّةْ

غزلٌ ليس لجسمٍ

فهْوَ للرّوحِ النّقيّةْ

من رياحين مناها

جادتِ الأرضُ الصبيّةْ

من رآها ذاتَ عيدٍ

فليبلّغها التّحيّةْ".

يُذكر أنّ الأستاذ الشّاعر "عيسى مصطفى الجنيدي" من مواليد "الكريديّة" في "ريف جبلة"، عام 1947م.