"محمّد داود" شاعر ابتدأ مديراً لمدرسة ابتدائية ريفية، عرف الاغتراب الداخليّ باكراً بحثاً عن متابعة تعليمه ونجح في ذلك، ليقدّم خبراته كاملةً لمصلحة العلم والتعليم.

مدوّنة وطن "eSyria" التقت المدير المتقاعد "محمد داود" في منزله في قرية "تلّ حويري" بتاريخ 21 أيار 2014، للحديث عن تجربته في الإدارة والتدريس والشّعر، حيث ابتدأ بالقول: «ولدتُ في بيئة زراعيّة ريفيّة، وكنتُ الولد المدللّ لأهلي لأنّني الذكر الوحيد في الأسرة. وخلال طفولتي كنت أتجوّل في الطّبيعة وأزرع الدّخّان البلديّ وأصطاد العصافير، وأحياناً أذهب لرعي الماعز والغنم مع أخواتي البنات».

ولدتُ في بيئة زراعيّة ريفيّة، وكنتُ الولد المدللّ لأهلي لأنّني الذكر الوحيد في الأسرة. وخلال طفولتي كنت أتجوّل في الطّبيعة وأزرع الدّخّان البلديّ وأصطاد العصافير، وأحياناً أذهب لرعي الماعز والغنم مع أخواتي البنات

وتابع: «درست الابتدائيّة في مدرسة "كنكارو" الرّسميّة من الصّفّ الأوّل حتّى الخامس، وبحكم تفوّقي ونشاطي قرّر مدير المدرسة وقتها أن أدرسَ الصّفّ الثاني والثالث الابتدائيّ في سنةٍ واحدة، وقدّمت "السّرتفيكا" في مدرسة "عزّ الدّين القسّام" في مدينة "جبلة"، وفي تلك الفترة تمّ إلغاء شهادة "السّرتفيكا" واستعيضَ عنها بالصّفّ السّادس الابتدائيّ الّذي درسته في مدرسة "القطيلبيّة"؛ فكنت تلميذاً متفوّقاً وتمّ اختبارنا في مدرسة "بنين جبلة" التي تُسمّى حاليّاً مدرسة "محمد سعيد يونس" المعروفة، وتابعتُ فيها دراسة "التّجهيز" على نفقةِ الدّولة، واغتربتُ عن الأهل في مرحلة مبكّرة حيث سكنتُ مع مجموعة من زملائي الطلاب في أحد بيوت "حيّ العمارة" لأكمل دراستي الإعداديّة، ودراسة الأوّل الثانويّ في المدرسة ذاتها، حيث ساهم هذا الابتعاد عن الأهل وعن الوسط الزراعيّ إلى تطوير معارفي بحياة المدينة والاعتماد على النّفس أكثر».

يقرأ بعض أشعاره

وتابع: «بعد نجاحي في الصّفّ الأوّل الثانويّ تابعتُ الدّراسة في "دار المعلّمين" في "حمص" لتأهلينا كمعلّمين للصّفوف الابتدائيّة، وبقيت فيها من العام 1963 حتى العام 1967م، وكنت من العشرة الأوائل حيث تمّ تعييني مديراً لمدرسة "عين التينة الريفية" في منطقة "الحفّة"، وبقيتُ فيها ستّة أشهر، وإضافة للإدارة درّستُ تلاميذ الصّفّ الثالث والرّابع وكان عددهم وقتها 63 تلميذاً».

تمّ انتقاله من مدرسة "عين التينة الريفية" إلى مدرسة "الدالية الريفية" القريبة من قريته عن طريق قصيدة شعر تحدّث عنها: «بحكم البعد عن الأهل فكّرت بالانتقال إلى مدرسة تجعلني قريباً منهم حيث كنت الدّاعم الاقتصادي لهم، وبحكم عدم وجود معارف لي يمكنهم مساعدتي في هذا الأمر، فقد كتبتُ قصيدةً أشرح فيها معاناتي في المدرسة وابتعادي ورغبتي في الانتقال إلى مدرسة "الدّالية"، وأرسلتها إلى مدير التّربيّة في ذلك الوقت السيّد "الشّريف صالح الفضل"، وكان مطلعها "شريفٌ صالحٌ عنوانُ خيرٍ....... وقولي صادقٌ صدقَ اليقينِ"، وبالفعل تمّ نقلي إثرها وعُيّنتُ مديراً للمدرسة في عام 1969، وبعدها انتقلتُ إلى مدرسة "كنكاور" القريبة التي يدرس فيها أبناء "تلّ حويري" جميعهم».

قرية"تلّ حويري"

كان سبباً في بناء مستوصف للقرية، تحدّث قائلاً: «في منتصف ثمانينيات القرن الماضي زارنا عضو مجلس الشّعب "توفيق إبراهيم" إلى المدرسة لمعرفة ما ينقص المدرسة والقرية من خدماتٍ. طرحت وقتها عليه فكرة بناء مستوصف في قبو مدرسة "كنكارو" التي أديرها، وهو مؤلّفٌ من أربع غرفٍ وصالون طويل، وبالفعل تمّ إنجاز هذا المشروع، ومازال المستوصف إلى الآن يقدّم خدماته لأهل القرية والقرى المجاورة».

ظلّ حبّه لدراسة اللغة العربية هاجساً ملحّاً يرغب في تحقيقه: «في العام 1966 عندما كنت في "دار المعلمين" قدّمت لنيل البكالوريا ونجحتُ، ولكنْ لم أوفّقْ في التّسجيل بسبب عدم قدرتي على التنسيق بين جامعة "دمشق" ودراستي في الدّار. وعندما كنتُ مديراً في "الدّالية" أعدت تقديم البكالوريا من جديدٍ لأنجحَ أيضاً وأسجّل رغبتي الأولى في المفاضلة وهي اللغة العربية، ولكن لسوء الحظّ درستُ الرّغبة الثانية "الجغرافية" في جامعة "دمشق"، لأنال الإجازة في خمس سنوات ولأستفيد منها في سجلّي التعليميّ، حيث درّست مادة الجغرافية في مدرسة "كنكارو" لطلاب الإعداديّ لمدّة ثلاث سنوات بعد إجراء مسابقة في "دمشق". وفي العام 1976 عيّنتُ مديراً لثانوية "كنكارو" مع بقائي مدرّساً لمادة الجغرافية لأبقى على هذه الحال حتّى عام 2007، حيث وصلتُ إلى سنّ التقاعد».

شهدتْ مدرسته الكثير من المهرجانات الفنيّة، تحدّث عنها: «كنّا نقيم معارض فنون تشكيّليّة ومن أبرز المشاركين الفنان وأستاذ الرّسم في المدرسة "نعمان إسماعيل" من قرية "النقيب" في "طرطوس"، وكذلك مدرّس الرّسم "هيثم عباس" من قرية "الدّيّ" في "طرطوس"، وكنت حريصاً على إقامة الرّحلات العلميّة والسّياحيّة للطلاب، وأسعى لإقامة مهرجانات شعريّة وحضور النشاطات الأدبيّة في المراكز الثقافيّة في محاولة لخلقِ جيلٍ محبّ ومنفتح».

وكان للشّعر حديث ذو شجون، فقال: «في الصّفّ السّابع كنت أدخّر المبلغ المالي الزّهيد لشراء الكتب وأوّل كتابٍ اشتريته هو كتاب لـ"جبران خليل جبران"، وتتالت بعده دواوين الشّعراء القدامى حيث قرأتها بشغفٍ واهتمام وتأثرت بأسلوبهم، فكتبت في المواضيع الوجدانيّة والوطنيّة والصّوفيّة مئات القصائد ما بين الموزون والنثر، ونشرت العديد منها في صحيفتي "الوحدة" و"الثورة"، وشاركت في بعض الأمسيات والمحاضرات الأدبيّة في ثقافي "القطيلبيّة" وثقافي "جبلة"».

السيّدة "إلهام سليمان" التي تشاركه حياته قالت: «أنا محظوظة لأنّني زوجته، فمنه عرفت تنظيم الوقت والالتزام والاهتمام بكلّ التفاصيل وحبّ الحياة، حيث يستيقظ باكراً ويمارس الرّياضة ويقرأ ويكتب ونادراً ما يتحدّث فيما لا ينفع. إنه رجلٌ يحبّ الآخرين ويسعى إلى تقديم الخير للنّاس».

الشّاعر "أمجد عبد الرحمن" قال: «كنت من طلابه في مدرسة "كنكارو"، فهو إنسان محبّ للعلم والتعلّم حيث يسعى بشكلٍ دؤوبٍ إلى مزيدٍ من القراءة والبحث عن الجديد، وكان على صعيد الإدارة مديراً عفويّاً وبسيطاً وملتزماً، وكان معنيّاً باكتشاف المواهب عند طلابه. وعلى صعيد الشعر فهو قارئ جيّد ولديه أشعار كثيرة كتبها على السّليقة، حيث تسعفه قريحة سلسة في التّعبير عن مكنوناته التي تتجلّى في شكلِ قصائد موزونة في أكثر الأحيان».

من قصائده قصيدة في رثاء الشّاعر "سليمان العيسى":

"تواشيحُ الشآم صنعنَ فجراً...... وصغنَ قلائدَ الأيّام درّا

بهمّةِ شاعرٍ زالتْ همومٌ....... وأزهرت الزّمان ندىً وعطرا

كأنّ الوجد هفهف من جديدٍ..... بسوريّا السّلام رضىً ونصرا

تباشيرُ الرّبيع لها غصونٌ....... زواهرُ تغدو للآمال زُهرا

كأنكَ في كياني نبض "عيسى"..... "سُليمانٌ" يصوغ المجد بدرا

تفيض بدائع الأفكار نثراً.......... فتخلد في مقام الحبّ شِعرا

قطوفٌ دانياتٌ من يراعٍ........... رعى شوقا أحبّته وأغرى".

يُذكر أنّ، المدير الشّاعر "محمد داود" من مواليد "تل حويري" بريف "جبلة"، 1947.