"عيسى المفرج" مزارع بسيط لم يمنعه مرض السكري الذي لازمه باكراً وانتهى ببتر ساقه من حبّ الحياة؛ فكتب الشّعر الموزون والمواويل الشعبية الجميلة، وأنشأ أسرة محبة للعمل.

مدوّنة وطن "eSyria" التقت "عيسى" في قريته "سوكاس" بتاريخ 23 آذار 2014 للحديث عن تجربته الحياتية، حيث ابتدأ بالقول: «ولدت في بيئة زراعيّة فقيرة تشتغل بزراعة "القمح والدّخان والفستق والحمضيات"، وفي هذا المناخ العفويّ مشيت خطواتي الأولى وتعلّمت في مدرسة "قبوسوكاس"، ولكنّ وضعنا المادّيّ لم يساعدني كثيراً في إكمال تعليمي فغادرت المدرسة وأنا في الصّفّ الثالث الإعداديّ لأبقى بعدها صديق الحقول ورفيق والدي في أعماله، فكانت الأرض مدرستي الثانية التي علمتني الصّدق والصّبر وحبّ الأغاني التي لا تزال تدغدغ خاطري كلّما تذكرت والدي وتذكّرتُ أيّام الصّبا».

من أبرز أصدقائي حاليّاً هو "صالح شحوارة" الّذي يزورني في منزلي حاملاً ربابته ليتحوّل مجلسنا العفويّ إلى مجلس طربٍ حزين، فهو بمنزلة والدِي الّذي يعلّمني كيف أقاوم المرض وكيف أبقى مُتفائلاً وعاشقاً للحياة

وتابع: «في سنّ الشّباب غادرت إلى العاصمة بحثاً عن العمل؛ حيث أخذتني "دمشق" بحاراتها وشوارعها وناسها وصخب العمل لأعيش فيها زمناً طويلاً من عام 1975 إلى عام 2000، وخلال هذه الفترة اشتغلت في المطاعم وفي بيع القهوة والفول على عربة متنقّلة، وقد زادت وتيرة عملي بعد أن تزّوجت وأنجبت الأطفال، ولكنّ المصادفة الأجمل عندما تعرّفت صاحب مكتبة على مقربة من سينما "دمشق"؛ حيث بدأت أشتري من مكتبته الكتب والمجلات الأدبيّة وشعرت بأن القراءة فتحت لي عوالمَ في داخلي لم أكن أعرفها، فكتبت الخواطر التي تعبّر عن الغربة والشّوق إلى القرية، فكانت الكلمة رفيقة سهراتي حيث تخفف التّعب وتزيل الهمّ، واشتركت بشراء مجلّة "القبس" الكويتية، و"الصّين المصوّرة"، والجرائد والمجلات السوريّة».

صديقاه العكازان

وتابع: «كنت أعبّر عن مشاعري بلغة بسيطة لا تشبه لغة الشّعراء، ولكنّها لغة المزارع العاشق، وكنت أدوّنها بخطّ يدي وأجمعها في دفترٍ خاصّ لايزال موجوداً ومازلت أقرؤه بشكلٍ يوميّ تقريباً، وتعلّمت من القراءة المتواصلة سرعةَ البديهة؛ حيث أكتبُ الموّال والزّجل والأغاني الشّعبيّة وأستوحيها من أيّ مناسبةٍ أو مشهدٍ أو سهرةٍ للأصدقاء، وكنت ألفت نظرهم بقدرتي على الارتجال».

وعن مرض السّكري الذي لازمه تحدّث: «كنتُ معتاداً في "دمشق" أن أمارس الرّياضة الصّباحيّة والمسائيّة، وعندما عدت إلى القرية عام 2000 ابتعدتُ عن الرّياضة وبدأت أشعر بالتّعب وبضعف الرّؤية أثناء القراءة، وبدأ جسدي بالنّحول فذهبتُ لاستشارة الطبيب وأخبرني بأنّ حالتي عاديّة وأنّه مرضٌ عابرٌ، فعدت إلى نشاطاتي المعتادة لأتناول الأطعمة السّكريّة والحلويّات التي أحبّها فزادت الأعراض والمخاطر، فعاودت الاستشارة لأكتشف "مرض السكري" الذي تضاعفَ وأدّى إلى إصابة ساقي اليمنى بداء "الغرغرينا" واضطررتُ لقطعها».

يقرأ في دفتر أشعاره وذكرياته

وتابع: «لم أشعر باليأس أبداً، واستسلمت لقضاء الله وقدره فهذا نصيبي في الحياة ولا بدّ من متابعتها وكأنّني أملك ساقين، فواصلت القراءة ولكن ببعض الصعوبات وخصوصاً في الليل، ومنذ ذلك الوقت أصبح لي صديقٌ جديدٌ هو العكّاز الذي يلازمني في مشاويري القصيرة، فلم يعد بإمكاني المشي لمسافاتٍ طويلة حيث يمكنني فقط التجوّل في حديقة منزلي وزيارة الجيران القريبين».

وعن محطاته الغنّائيّة قال: «بحكم حبّي للموّال أقمتُ علاقاتٍ مع بعض الفنّانين الشّعبيّين، وأبرزهم الفنّان المرحوم "صادق حديد" ووالده المرحوم "محمد حديد" اللذان يبدعان في "العتابا" وفي ارتجالها، حيث كنّا نتنافس في الارتجال، وكثيراً ما نمضي ساعاتٍ طويلة ونحن نتحاور، ولكنّنا لم نسجّل حواراتنا في شريطٍ لأنّ صوتي لم يكن حنوناً فأنا أعرف أن أؤدّي الموّال لكن دون إعطائهِ حقّه في القفلة وفي البحّة والنّغم، فكنت ألقيه كأنّني ألقي قصيدة».

من أشعاره بخط يده

وتابع: «من أبرز أصدقائي حاليّاً هو "صالح شحوارة" الّذي يزورني في منزلي حاملاً ربابته ليتحوّل مجلسنا العفويّ إلى مجلس طربٍ حزين، فهو بمنزلة والدِي الّذي يعلّمني كيف أقاوم المرض وكيف أبقى مُتفائلاً وعاشقاً للحياة».

المزارع "منهل المفرج" تحدّث عن والده بالقول: «ليس سهلاً أن يكون أحد أفراد الأسرة يعاني من مرضٍ يمنعه من القيام بالعمل ولا يستطيع تأدية دوره الأسريّ، ولكنّ والدي فقد القدرةَ على الحركة ولم يفقد الكلامَ فكلامه يعلّمنا الصّبر والتحمّل وحبّ العمل. وهو يبدع في استحضار "الحكايات والنكتات والحزازير" ليحوّل وقتنا معه إلى فرحٍ وضحكٍ إلى درجة يُنسينا ويَنسى وضعه الصّحي. والدي رجلٌ طيّبٌ ويستحقّ الاحترام والتقدير».

عازف الرّبابة المعروف "صالح شحوارة" قال: «"عيسى" صديقي، وبحكم قرب منزلي في "الزهيريّات" من قريته فإنني دائماً ألتقيه بشكلٍ أسبوعيّ أو شهريّ على الرغم من تقدّمي في السّن. وهو يحبّ سهراتي التي تتخللها معزوفات ربابتي والأغاني الشعبية. وغالباً ما نرتجل المواويل ونغنّي حتّى وقتٍ متأخّرٍ من الليل حيث يشعر بالسّعادة والطّمأنينة في حضرتي، فأنا بمقام والده رحمه الله».

من قصائده:

"هذه الأيّام تمضي...... بالهوى جوداً وبخلا

ساعةً يصفو هوانا........ ساعةً بالهجر نصلى

لا تسلني عن حياتي....... إنّها طيفٌ تولّى

فاغنمِ الأفراح منها........ وانهلِ الأقداح نهلا

هكذا فالعمر ماضٍ...... يا رفاق العمر أهلا".

من مواويله:

"تا إزرعلكْ على دربك وردْ فِلّي

وأنا قصدي لَ هالورداتْ فلّي

إذا مو عاجبك هالأمر فلّي

يا محلى سكوت حَوّا عَ الجوابْ".

يُذكر أنّ المزارع "عيسى المفرّج" من مواليد قرية "سوكاس" 1956. متزوّج وله أربعة أولاد.