بين التعليم والتأريخ وسلك الجيش، قضى "جميل سليمان الراهب" أغلب فصول حياته، فلما تقاعد من زحام الحياة، امتشق قلمه القديم وأفرغ على الصفحات البيض ستة كتب خلال بضع سنوات في مواضيع شائكة.

بدأ "الراهب" سيرته في الكتابة بكتاب داعب خياله منذ بدأت رياح التغيير تطول قريته "سنجوان"، فمن اتساع حقول التين والعنب والحكايات، إلى التهام الإسمنت للذاكرة المعمّرة في بنايات متطاولة لا حياة فيها لأي ذاكرة حقيقية، ينظر "الراهب" إلى الماضي بعين الحنين، ويتحدث إلى مدونة وطن "eSyria"، بتاريخ 22 كانون الثاني 2014، بالقول: «ولدت عام 1936، درستُ في مدرسة "الأرض المقدسة" دراسة خاصة، بعد الكفاءة (التاسع) تركت المدرسة لضيق الحال، ثم التحقت بالتعليم، وجاء تعييني في قرية اسمها "تل كوشر"، في محافظة "الحسكة" على بعد ثلاثة كيلومترات من الحدود مع العراق، كان ذلك عام 1955 وقد عشت هناك كأحد أفراد تلك القبيلة العربية لسنوات لم يميزني أحد فيها إلا بكوني "إمام القرية" الذي يعلم الناس القرآن الكريم ويشتغل في محو الأمية لهؤلاء الناس».

تبدأ الحكاية هكذا، تتعرّف الشخص فيعجبك، وتبقى الصورة نفسها حتى بعد مضي سنوات طوال، مع "سليمان الراهب" تشعر بأن الزمن يرافقك في حله وترحاله

من "تل كوشر" انتقل "الراهب" إلى إحدى قرى "القامشلي" واسمها "رحية السودا" معلماً في مدرسة تبعد 27كم عن "القامشلي" ولا طريق يوصل إليها سوى طريق ترابية، ليتابع هناك أيضاً مسيرة التعليم قبل أن يستدعى إلى الاحتياط، وينتقل إلى "السويداء" كصف ضابط في الجيش العربي السوري، وخلال فترة الاحتياط التي دامت سنوات عشر نال الثانوية العامة وسجل في كلية الآداب - قسم التاريخ في جامعة "دمشق"، ليتخرج فيها عام 1977 مدرساً، ليعود بعد ذلك إلى صفوف الجيش حتى تقاعده نهاية تسعينيات القرن الماضي.

غلاف كتاب سنجوان

قدم "الراهب" مشروعه الكتابي كوثيقة دفاع عن التاريخ الحضاري لـ"سورية" الإنسان والحرف، فيستعيد في كتابه "العتبات التاريخية" الأصول الحقيقية للحضارة السورية القديمة المتمثلة حتى اليوم في عدة مظاهر مازال الناس يعيشونها دون أن يعرفوا أصولها وجذورها، ويقول الراهب في هذا الصدد: «هذا الكتاب كتبته مستنداً إلى منهجية الباحث المدقق في كثير من الحكايات المتداولة، وقد بحثت في بطون الكتب عن توثيق لهذه الولادة الحضارية مسمياً إياها العتبات التاريخية، ولا أغالي إذا قلت: إن هذه البلاد هي مهد الحضارة الإنسانية الأولى، فعلى عتبات هذه البلاد ولد الحرف واللغة والإنسان المزارع، والحرفي، والكاتب، وكل ذلك وفق أدلة وفرتها لنا التنقيبات الأثرية الجديدة، إضافة إلى المخزون اللغوي الثري في لغتنا العامية».

وأكمل الكاتب رحلته المعرفية بجزء ثانٍ سماه "العتبات الأسطورية" تناول فيه المحتوى الأسطوري للشرق العربي برؤية جديدة تبتعد عما نقله المترجمون عن بحاثة الغرب، فاستعان باللهجات المحلية الحية لتناول المواضيع الأسطورية بالبحث والتدقيق وتقديمها بصورة تنتمي إلى جذروها الحقيقية الحضارية والإنسانية وفي ظرفها المحلي.

كتب المؤلف "جميل سليمان الراهب"

لا تنقص الموسوعية الكاتب "الراهب"، فهو قارئ من الطراز الأول، ولم يؤثر تقدمه في العمر برغبته في القراءة، فهو الصوفي العاشق للشعر وقراءته اليومية، والصديق القديم لعائلة الشاعر الكبير الراحل "بدوي الجبل"، وهو القارئ في علم النفس والجمال والتأريخ، من "كولن ويلسون" إلى "تشيخوف"، إلى ترجمات "سامي الدروبي" وصولاً إلى رفيقة دربه مجلة "المعرفة" السورية التي رافقته طوال سنوات عمرها الأربعين.

إلى جانب البحوث، كتب "الراهب" رواية حملت عنوان "طواحين النار" ومجموعة قصصية عنوانها "إحدى عشرة قصة وقصتان"، أما كتابه الأبرز الذي سجل له حضوره ليس في ذاكرة أبناء جيله فقط، بل في ذاكرة كل من جاء بعده، فكان كتابه "سنجوان: إطلالة على الذاكرة" وهو أول كتاب مطبوع له، ويتناول قريته "سنجوان" في صيرورة تحولها من قرية ترابية أواسط الثلاثينيات إلى شبه مدينة مستعرضاً الطقوس والعادات والبشر والحجر في تلك البقعة الغافية على هضبة "الخضر".

صورة أخرى للكاتب

يقرأ صديقه "ثائر شحادة" حكايته مع الكتابة، فيقول: «تبدأ الحكاية هكذا، تتعرّف الشخص فيعجبك، وتبقى الصورة نفسها حتى بعد مضي سنوات طوال، مع "سليمان الراهب" تشعر بأن الزمن يرافقك في حله وترحاله».

فيما يشير ولده المهندس "فراس" إلى أن أسلوب عمل والده تغير بعد أن حطت التكنولوجيا رحالها في البيت، فهو يستعين بالإنترنت في بعض توثيقات كتبه، ومتى توافر له كتاب يبحث عنه في الشبكة العنكبوتية، ومع اقترابه من العقد الثامن من عمره إلا أنه يستمر بالكتابة كعادة يومية في حياته، آخر ما يخطه كتاباً يحمل عنواناً شعرياً بامتياز "قبل أن تجف الذاكرة (كوى في جدران الزمن العتيق)"، ولعله بذلك يفرغ ما في جعبته من الحنين إلى ذاك الزمن الجميل.