تنطلق فلسفة المكان العام ليس من كونه مكاناً "عاماً" يتشارك فيه الناس المكان وجغرافيته، بل لكونه فسحة مفتوحة لتبادل التأثيرات بفعل لقاء الناس وحوارهم، وبما يقدَّم لهم فيه من جهة ثانية من فنون وأفكار.

نعني بالمكان العام، كما يقول الفنان التشكيلي "فواز حسون" منسق مهرجان "زلفة" الموسيقي والتشكيلي (مع صديقه الفنان "يزن جبور") في حوار مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 28 تشرين الأول 2014: «الأمكنة التي تصنف تبعيتها للدولة أو المجتمع، كالحدائق والساحات العامة والأرصفة والطرقات والغابات وغيرها من الأمكنة الممكن استخدامها كمكان للقاء أو التجمع أو لغايات أخرى».

شاهد لوحاتي أبي وأمي وإخوتي والجيران وأصدقاء البابا، وناس "غريبين" أول مرة أراهم، أنا سعيد لأنهم جاؤوا وتفرجوا معنا على ما تعبنا عليه في النادي

ويتابع الفنان "حسون": «عبر التاريخ الإنساني، وفي المدن والقرى قديماً وحديثاً، كان هناك أمكنة مخصصة للاجتماع العام، في هذه الأمكنة يتبادل الناس الأفكار والحوارات حول القضايا التي تهمهم، وعلى رأسها قضايا الحياة الاقتصادية والدينية والسياسية، كذلك الاحتفالات بالأعياد بمختلف أنواعها الدينية وغير الدينية، والمثال الأكثر شهرة ما كان يجري في مدن الشرق، ومن ثم انتقل واشتهر في اليونان في ساحات حملت اسم "الأغورا" وتعني الساحة العامة».

من الاحتفالية

تعددت استخدامات هذه الساحات، فمنها، كما يقول الفنان "حسون": «ما كان استخدامه سلبياً ساهم في قتل الروح الجمالية لدى الإنسان، كما كان يحدث في روما في ألعاب المصارعة البشرية مع الحيوانات، ومنها الإيجابي كما حدث في الساحات العامة السورية وغيرها للمطالبة بالاستقلال عن الاحتلالات الأجنبية لبلداننا، وآخر ما يتذكره الكثيرون احتفالات "عيد الرابع" في الساحل السوري لسنوات قليلة مضت.

في إطار استخدام المكان العام بطريقة إيجابية وإنسانية تعزز القيم الجمالية والفنية، تبرز الحدائق بكونها الفسحة الأكثر تعزيزاً لهذه القيم وباقترابها المباشر من الإنسان المتلقي بطريقة حميمية، والتجربة التي شهدتها مدينة "اللاذقية"، تمثلت باستخدام حديقة أطفال حي "الزراعة" (حديقة الشهيد عمار عبود حالياً) لتقديم احتفالية فنية حملت اسم "زلفة" ولثلاثة أيام، أقامها نادي "حكايا الفن"، تضمنت تقديم عروض موسيقية وأخرى تشكيلية نحتية ورسوماً فنية لأطفال ويافعين وشباب بعضهم من خريجي كليات الفنون الجميلة في مختلف أنحاء "سورية"».

كذلك من الأجواء

حضر الاحتفالية عدد كبير من الناس غصّ بهم المكان، ومن مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية، في تفسير هذا الازدحام؛ قالت الطالبة "هبة إبراهيم"، مشاركة في الاحتفالية، سنة ثانية فنون جميلة، اختصاص تصوير: «الحديقة ملتقى أنواع عديدة من الناس الباحثين عن فسحة روحية من هموم الحياة أغلب الأوقات، وفي الأحوال العادية للتفريج عن أنفسهم، فكيف إذا كان فيها احتفالية تقدم موسيقا مختلفة مميزة، بعازفين حقيقيين، يعزفون أمام جمهور ربما لم يحضروا بحياتهم موسيقياً على التلفاز؟! من هنا فإن المكان العام يكتسب هذه القدرة على تقديم المختلف ويدفعه لإعادة النظر بمسلمات حياته العادية، فيمكن أن يذهب بعد الاحتفالية ليبحث عن هذه المقطوعات الموسيقية لتكون نغمة لـ"موبايله"».

وبنفس هذه الرؤية، أكملت الآنسة "سلوى الخير" وهي طالبة في السنة الرابعة هندسة، عازفة بيانو مشاركة في الاحتفالية، قولها: «تعوّد بعض الجمهور حضور الأمسيات الموسيقية في الأماكن المغلقة كالصالات والمسارح، هذا إن كان يذهب إلى تلك الأمكنة حيث يرتبط ذاك الطقس بالرسمية أغلب الأوقات، هنا في حديقة عامة منفتحة على العالم والجيران والسماء، لا قيود عليه لجهة التلقي، ولا لجهة الحركة، ولا لجهة التفاعل، فهو قادر على التفاعل مع ما يقدم له بكل أريحية، يقدر على المشي والغناء وشرب القهوة مع الاستماع للموسيقا بحرية وفرح، شاهدتُ تفاعلاً بيننا وبين أناس يسمعوننا للمرة الأولى فيعودون أبكر في اليوم التالي، ويطالبنا هؤلاء بتمديد أيام الاحتفالية».

لم تستطع مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية أن تقطع رغبة الناس بالتواصل الحقيقي فيما بينهم، هذه الحقيقة تجسدت بوضوح لدى زوار الاحتفالية الكثر، بائعُ القهوة العربية في مدخل الحديقة شارك في الاحتفالية بطريقته الخاصة، فقد عمل مع المتطوعين لتنظيف الحديقة وترتيبها، واستقبل الزوار وتفاعل مع الأطفال، كما أحضر عائلته لتشارك في الاحتفالية، وقد أكمل لنا السيد "فادي حواط" (موظف سابق) قائلاً: «أحببت جداً هذه الفكرة، لأول مرة أرى هذه النوعية من البشر في الحديقة، الصفة العامة لزوار بعض الحدائق هي أنهم من المراهقين والشباب الطائشين، حتى هؤلاء الذين أعرفهم جيداً كانوا "شهمين"، وساعدونا في تنظيف وترتيب الحديقة ولملمة الأعمال عندما انقطعت الكهرباء فجأة، لم يحدث أي إشكال، ما أريد قوله، هو أن الخير فينا موجود، وما علينا إلا اكتشاف طريقة مناسبة لإخراجه».

الأكثر جمالاً والأكثر فرحاً كان الأطفال؛ فللمرة الأولى يعزفون موسيقاهم أمام الناس، ويشرحون للزوار معاني لوحاتهم، الطفل "أحمد جليكو" شارك بعدة لوحات في المعرض، قال: «شاهد لوحاتي أبي وأمي وإخوتي والجيران وأصدقاء البابا، وناس "غريبين" أول مرة أراهم، أنا سعيد لأنهم جاؤوا وتفرجوا معنا على ما تعبنا عليه في النادي».

يمكن تعزيز نشر هذه الثقافة والإبداع باستخدام هذه الطرائق غير التقليدية، على أن تتكامل في العمل مختلف الجهات التي يعنيها الشأن العام، من جهات ثقافية متخصصة إلى الشركات والمؤسسات الوطنية التي يهمها تقديم صورة حقيقية عن ثقافة السوريين، ثقافة التسامح والعطاء والفن الإنساني الخالد.