لا شك أن الحكايات الشعبية هي الرئة التي تتنفس فيها وقائع الأيام الخوالي، وتظهر فيها عوالم نضج المجتمعات وموروثها القيمي والأخلاقي المتناقل بين الأجيال.

للحكاية الشعبية امتدادات في عمق التاريخ، فلا يعرف مؤلف هذه القصص الشهيرة التي تتناقل بين الأجيال مع إضافات يقوم بها كل جيل؛ وهذا ما حدث مثلاً في "ألف ليلة وليلة"، أو "الزير سالم"، أو "قصة عنترة العبسي"، وغيرها.

يوحد الناس في عالم القص المتخيل المبني على المعجزات وعلى تدخل الجن وحصول الأبطال على قدرات خارقة لأنهم قدموا لمجتمعهم خدمات معينة أو أنقذوا متورطين في حوادث، وهو ما يتشعب في أغلب القصص الشعبية حول العالم

يذكر الباحث "حيدر نعيسة‏" في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 28 أيلول 2015، أن التراث الشعبي في المشرق العربي توالد في حقب موغلة في القدم، ويقول: «تمثل الحكاية الشعبية ركناً أساسياً من أركان الأدب الشعبي، وهي تأتي على غرار الأمثال والألغاز الشعبية والأقوال والتعابير الشعبية السائرة، إضافة إلى اللهجات الشعبية الشائعة في بيئة الساحل السوري أو غيرها، وقد عرفت في "أوغاريت" و"إيبلا" و"ماري" وغيرها من المواضع الحضارية السورية، يستدل على ذلك من وجود نماذج متعددة من الأساطير كتبت كي تتلى أمام الجمهور وتردد ويعاش طقسها بوضوح وصدق، هذه الأساطير المؤسسة للوجدان الجمعي المشرقي والسوري منه هي اللبنة الأولى فيما نعرف عن القصص وتأثيرها في الجمهور».

الباحث حيدر نعيسة

وتعكس الحكايات الشعبية في جانب منها قيم الشعب وأخلاقياته، هناك في أدب الحكمة الأوغاريتي والبابلي ما يوضح الاهتمام الكبير بنقل سلّم القيم إلى الأجيال الجديدة بطريقة سهلة وسلسة، يضيف الباحث: «من أهم مواضيع القصص الشعبية التركيز على الأخلاق وقيم المجتمع من احترام للأجداد والأطفال وتعزيز العلاقات العائلية والابتعاد عما يسيء إليها، من هذه النماذج مثلاً في حكاية "الأمير سعلاي الدين والأميرة بدور" (وقد وردت في القصص الشعبية الموثقة) التي تركز على فعل الخير والإحسان للآخرين».

هناك مواضيع كثيرة تناولها القصّ الشعبي وتناقلها في ليالي الشتاء الثلجية وفي ليالي الصيف المقمرة، كان الطقس الاجتماعي المرافق يجمع كما يذكر الباحث الدكتور "أحمد مصطفى سيف الدين" من جامعة البعث كلية الآداب والعلوم الإنسانية في بحث منشور له، ويقول: «يوحد الناس في عالم القص المتخيل المبني على المعجزات وعلى تدخل الجن وحصول الأبطال على قدرات خارقة لأنهم قدموا لمجتمعهم خدمات معينة أو أنقذوا متورطين في حوادث، وهو ما يتشعب في أغلب القصص الشعبية حول العالم».

مشهد ينتظره الأطفال

هناك في القصّ الشعبي المحلي قصة يتداولها الناس تتعلق بالبحث عن الخلود والحكمة والطمع والجشع وهي من القيم المنبوذة في المجتمع الزراعي، هي قصة "الإسكندر ذي القرنين"، وهي من القصص التي تجمع بين ما يسميه العامة "عطايا الإله" وطمع الإنسان، وقد وردت القصة في عدة قصص شعبية حول العالم، تذكر الدكتورة "نبيلة إبراهيم" أنها وردت في الأدب المصري القديم وفي الأدب السرياني السوري وفي الروايات الإغريقية واليونانية والعربية، وملخص القصة هو أن "الإسكندر" ولد ولادة غير طبيعية تختلف تبعاً للحكاية وتاريخها لكنها تتفق على تدخل غير طبيعي فيها، ثم نموه وتعلمه الآداب والمصارعة والقتال وتسلمه السلطة في بلاده ثم انطلاقته لغزو العالم، من المواقف التي تذكرها السيرة وتدلل على الزهد البشري هي أنه مرّ بمتصوف قضى أربعين عاماً يحدّق في عظام بالية، فسأله "الإسكندر" لماذا تفعل ذلك؟ فأجاب الرجل: قضيت أربعين عاماً أحاول أن أعرف الفرق بين عظام الغني وعظام الفقير من دون فائدة؛ (من كتاب أساليب التعبير في الأدب الشعبي ـ دار نهضة مصر).

في الساحل السوري بقيت هذه القصص متداولة حتى وقت قريب ومنتشرة إلى اليوم في بعض الجزر التي لم يطلها التغيير، وقد قام عدد من الباحثين بتوثيقها ونشرها حفظاً لها من النسيان والفقدان، ومنها مثلاً ما ذكره الباحث "برهان حيدر" في العديد من كتبه، كذلك الباحث "ياسر صاري" ومن أهمها كتاب للباحث "أحمد ساعي" بعنوان: "الحكاية الشعبية في اللاذقية"، كذلك ساهمت الباحثة "سلمى سليمان" بجمع هذه الحكايات وتوثيقها وصدرت عن طريق وزارة الثقافة؛ كما يقول الباحث "نعيسة" الذي يعمل حالياً على إعداد كتاب يتضمن أقدم هذه الحكايات التي لم تعد معروفة للجيل الجديد.

من الحكايات القديمة

من أهم الحكايات التي نقلت للأطفال حكايات "أمّنا الغولة"؛ وهي من الحكايات التي وردت في توثيق القصص الشعبية، من الواضح أن هذا القصّ لعب دوراً في تخليد وبناء العلاقات الاجتماعية في أوقات الفراغ من العمل والسهر في مجتمع لم يملك من أدوات التسلية سوى الالتفاف بعضه حول بعض، في مجتمعات المدن هناك الحكواتي وفي الريف كانت العجائز يتولين هذه المهمة وإلى اليوم يتابعن المهمة.