لم يكن العرس الريفي في الأصل مناسبة تتعلق بعائلتين فقط، بل كان طقساً اجتماعياً يجتذب الناس من القرى المجاورة والمناطق الأبعد؛ ليصدح الغناء والفرح النادران في حياة تلك الأيام.

في هذا الطقس الذي يختفي يوماً بعد آخر تجتمع عائلات القرية في ريف "اللاذقية" لتشهد ساحتها (مرسحاً) للدبكة في تقاليد تمتد هنا في تاريخها إلى زمن قديم بقي حتى وقت قريباً محافظاً على أصالته الحضارية؛ نابعاً من إحساس بالتكاتف والتواصل الحقيقي بين الناس.

تنطلق حلقات الدبكة مع الأغاني الشعبية في فضاء القرية، وأغلب هذه الأغاني من طراز "المواويل والعتابا والهويدلك"، وخاصة تلك التي تستدعي الدبكة والحركة للشباب والتحدي فيما بينهم لإضفاء جوّ من الحماس فيما بينهم

يذكر "علي عباس" من أهالي قرية "بستان الحمام" أن آخر عرس حضره في القرية يعود إلى مطلع الثمانينيات، وبعدها قلّت أو شبه اختفت هذه الظاهرة، ويقول في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 21 تموز 2015: «اجتماعنا كأهل للقرية كان في أغلبه من دون دعوة رسمية، الفكرة هي في ارتباط كل الأهالي بعضهم ببعض عائلياً وإنسانياً في الأفراح والأتراح، العرس كان مناسبة لكي نتصالح ونتصافى ونحيا من جديد بإيقاع الفرح من خلال أغاني تراثية حفظناها عن آبائنا وأجدادنا».

أبام الأبيض والأسود

ربما نحن آخر جيل سوف يشهد هذا العرس وأغانيه أيضاً، يتذكر الباحث "عيسى أبو علوش" وقائع ذلك العرس فيقول لـ"مدونة وطن": «كانت احتفالات العرس تتواصل على مدى سبعة أيام، ثلاثة منها قبل ليلة الدخلة، وثلاثة بعدها، وكان والد العريس يدعو أهل الضيعة للمشاركة في العرس، يسبق العرس تجهيزات كثيرة لأهل العروس والعريس حتى الوصول إلى اليوم الموعود، ولكل منها أغنيته المتداولة، فللخطبة أغانيها ولـ"الطليبة" كذلك، وللعرس أيضاً، وبينهما أغانٍ خاصة بـ"العزائم" التي يدعى إليها الطرفان أحدهما عند الآخر».

يقول الباحث "علوش": «عند قدوم موكب أهل العريس إلى بيت أهل العروس تتقدم الموكب ابنتهم أو أختهم الكبرى أو الخالة أو الجارة أحياناً مرددة المقطع التالي من "الدلعونا":

قرية الدالية مجتمعة

"جيناكن جيناكن.. وعالفرح جيناكن

لولا عيون عروسنا.. ما كنا جيناكن".

الباحث عيسى أبو علوش

وعند اقتراب الموكب من بيت العروس تغني إحداهن:

"جيناكن جيناكن.. لا تقولوا ما جينا

قولوا لأم العروس.. تفرح وتلاقينا".

وعندها تخرج أم العروس من المنزل وهي تحمل طبقاً من القش تفوح منه روائح البخور؛ مرددة ومغنية:

"أهلا وسهلا فيكن يا الجيتونا... عروستكن والكحلة عجفونا

لزين الشباب ومنكس بريمو... سعدا تحطوا جوات عيونا

يا ميت أهلا... وسهلا يا الجيتونا"».

في الأيام الثلاثة الأولى يجتمع الشباب والصبايا في حاكورة قريبة من بيت العريس ينظمون الحاكورة من حيث الإضاءة والكراسي وغير ذلك، يضيف "أبو علوش": «تنطلق حلقات الدبكة مع الأغاني الشعبية في فضاء القرية، وأغلب هذه الأغاني من طراز "المواويل والعتابا والهويدلك"، وخاصة تلك التي تستدعي الدبكة والحركة للشباب والتحدي فيما بينهم لإضفاء جوّ من الحماس فيما بينهم».

في العرس يحضر الطبل، والزمر، والناي أحياناً مشكلة جوقة موسيقية مع "المطرب" أو المغني، ويحدث دائماً تبادل للأدوار بين الشباب على الغناء، من أشهر هذه الأغاني التي وثقت أغاني "اللالا"، و"جفلة"، و"ع البابي ع البابي يا شمعة يا دوابي"، يذكر الباحث "برهان حيدر" أنه كان هناك تبادل في الغناء حتى لأم العروس وأم العريس وكل منهما تمدح الأخرى وتحضها على تقدير ما وهبت للأخرى، منها هذه الأغنية:

"يا أمي نقيلي بنيّي.. قبل ما يبطل هالزيي

عجزت وأنا نقيلك.. وقلي مين البدك هيي".

ومنها أغنية ما زالت حتى اليوم تتردد بأساليب مختلفة هي "شلك يا لأعزب شلك"، وقد تحورت حديثاً إلى "حلّك يا لأعزب حلّك.. ويا فقرك ويا دلك"؛ وهي من الأغاني التي أعاد استخدامها الرحابنة في أحد "اسكتشاتهم" كحوارية لطيفة قدمتها الفنانة "جورجيت صايغ" مع "وليم حسواني".

من الأغاني المشهورة المتداولة حتى اليوم أغاني "الهوارة"، وهي من أغاني الدبكة والتحدي، وأغنية "ع الواح"؛ وتختلف كلماتها حسب المغني والشاعر والمنطقة، يقول الباحث "حيدر" عنها: «تغنى هذه الأغنية عندما يطلب من العروس أن تحضر لتلبس لباس العرس، لكنها تغنى في حفلة العرس:

"ع الواح ثم الواح ثم الواحي.. واللون أسمر والخدود تفاحي

شوفا تفتش والسوار يخشخش.. قومي تنلبس يا زين الملاحي".

وفي بعض المناطق "قومي تنرقص أو ندبك أو نسرح"».

تختلف هذه الأغاني بين منطقة وأخرى اختلافاً طفيفاً، وكلها تغنى في أيام العرس السبعة، وتحاول خلق مساحة للفرح القليل في تلك الجبال الصعبة، يذكر الباحث "سامي ريحانا" في كتابه "موسوعة التراث القروي" (مؤسسة نوبليس)، أن هذه العادات كانت مشتركة في كل الساحل السوري حتى "فلسطين"، والاختلافات متعلقة باللهجة المحلية التي يستخدمها الناس.

وكالعادة لم يبقَ من طقوس العرس الريفي شيء يذكر، فاليوم أي عرس هنا يشبه أي عرس في أي مدينة عربية باستثناء أن الدبكة لا تزال عنوان أي عرس.

يذكر أن الصور من أرشيف الفنان الضوئي "عبد الحميد هلال".