من الجميل واللطيف ونحن نودع الشتاء، ونستقبل آخر "المطرات" في شهري نيسان وأيار، أن نتعرف إليها وإلى أسمائها في الذاكرة الساحلية السورية، التي نعتقد أنها ذاكرة سورية مشتركة.

أحصى صاحب "معجم المطر" (لمؤلفه "صلاح جابر"، صدر في "بغداد" عام 2001) مئتي اسم للمطر لدى عرب البادية، في حين شرح صاحب "اللطائف في اللغة" "أحمد بن مصطفى اللبابيدي" أسماءً للمطر تربو على المئة، فيناهز بذلك أسماء السيف الشهيرة في العربية، على أن لأهل الحضر والسواحل أسماءً أخرى لا يعرفها سكان المدن.

"مطرة عيد الميلاد" في 25 كانون الأول المصادف على حساب التقويم الشرقي بعد هذا اليوم بثلاثة عشر يوماً، كذلك هناك "مطرة القوزلي" و"البربارة" و"راس السنة"؛ وكل هذه "المطرات" على التقويم الشرقي، وهذه المناسبات كان كل سكان الساحل يحتفلون بها تقريباً

يبدأ موسم المطر في الساحل والجبل بمطرة تعرف باسم "البدرة"، كما تسمى في أماكن مختلفة "الباكورة" و"البكور" و"الباكور" أيضاً؛ إذ يؤنث المطر ويذكر في العامية، يقول في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 2 نيسان 2015، المزارع "علي عيسى" 55 عاماً من أهالي قرية "السفرقية" إن أول مطرة تعني للمزارعين الكثير، ويتابع: «مع قدوم "أيلول وتشرين" تبدأ الاستعدادات لفصل المطر، ويقوم المزارعون بتعزيل السطوح من الورق المتساقط عليها من الأشجار بعد قدوم فصل الخريف، وأول أعمال أيام زمان كانت لملمة "التين اليابس" من على السطوح كي لا يخربها المطر المفاجئ، الذي يستدل على اقتراب موسمه من الندى الصباحي على الأشجار والمزروعات، خاصة التبغ المنشور فوق الحيطان لتجفيفه، وهذه المطرة تعد مؤشراً لما سيكون عليه الشتاء القادم، وكلما بكرت في الهطول كان الشتاء أكثر أمطاراً وقساوةً وربما كان مثلجاً إذا ترافقت "المطرة" مع حبات البرد أحياناً».

علي عيسى

كذلك من غرائب "المطرة" الأولى أن الأرض تفوح رائحتها العبقة في الأجواء، ولكن يمنع أن تمتدح هذه الرائحة؛ لأنها رائحة الموتى كما يقول التراث الشعبي في الساحل، وتوضح هذه الفكرة العلاقة الحميمة التي تربط البشر بالأرض، وكيف يقيمون علاقتهم مع الزمن والطبيعة مبينة على اليقين بالنهايات القادمة بشكل جميل.

تحصل المطرة الأولى عادة في أيلول، و"يبدأ في تشرين الأول مع قطاف الزيتون، وكلما تجمع الغيم في السماء أكثر كان مؤشراً على اقتراب المطرة الثانية وما يتلوها، على أن القرويين"؛ كما يذكر في حديثه السيد "علي" يقولون: "بين تشرين الأول وتشرين التاني صيف تاني"، ويتابع موسم المطر رحلته في تشرين الثاني بغزارة.

مطر غزير

لبعض "مطرات" الشتاء ارتباطها الوثيق بذاكرة الناس، فهناك على الأكيد كما يقول السيد "عيسى": «"مطرة عيد الميلاد" في 25 كانون الأول المصادف على حساب التقويم الشرقي بعد هذا اليوم بثلاثة عشر يوماً، كذلك هناك "مطرة القوزلي" و"البربارة" و"راس السنة"؛ وكل هذه "المطرات" على التقويم الشرقي، وهذه المناسبات كان كل سكان الساحل يحتفلون بها تقريباً».

مع اقتراب نيسان يكون المطر قد أصبح خفيفاً، إلا أن هناك "مطرات" لا بد أن تحدث، فهناك كما يذكر السيد "علي سليمان" من قرية "بستان الحمام" "مطرة الرابع" التي تحدث في 17 نيسان على الحساب الشرقي دوماً، فهو "التقويم الذي يعتمده المزارعون في كل سورية"، وهي تحدث في "عزّ تكريس الزيتون"؛ أي تحول أزهاره إلى ثمار صغيرة توضح كيف سيكون الموسم القادم؛ وهي تفيد في سقاية الزيتون ولكون ثماره "مزيتة بشكل كافٍ ووافٍ".

مطر الساحل ثقيل وسريع

كذلك هناك تسميات تربط بين "المطرات" والبيئة مثل "مطرة أبو دس" التي "تغرقك ولا تحس"، وأبو دس هو طائر صغير جداً يمكن أن يمر بقربك ولا تنتبه إليه، فهذا النوع من المطر خفيف وتكاد لا تشعر به إلا أنه يتسبب بالبلل من دون انتباه".

من ظواهر ما بعد المطر التي كان يؤشر بها إلى فلاحة الأرض ظهور قوس قزح، تذكر الكاتبة "فريال الشويكي" في كتابها "الزمن السعيد" أن المثل الشعبي القائل: "قوس القزح انتصب قبله وشمال، فك فدانك وارحال"، "قبله: جهة القبلة، ارحال: أي ارتحل" كناية عن اقتراب هطول المطر، واستحالة الفلاحة في الأرض المبلولة حيث يبدأ موسمها عقب انتهاء المواسم. (من كتابها ص137).

يختم الربيع رحلته بمطرة تعرف هنا باسم "الخاروبة" وهي تحدث بعد انتهاء الفلاحين من موسم الحصاد، واسمها كما يقول السيد "عيسى" كناية عما تفعله بأكوام السنابل المتجمعة على البيادر، إذ تتسبب بخسائر كثيرة للفلاحين الذين يعتمدون على القمح كمصدر رزق رئيس، وهي تضطرهم إلى إعادة فرش أكوام السنابل ثانية على البيادر.

أمطار الصيف هنا قليلة، إلا أنها لا تعدم أن تحدث في "عز الشوب" والحر، ويسمي الناس هنا هذه المطرة بالـ"مصيّفة"، وهذا كناية عن توقيتها وخفتها التي لا تؤثر كثيراً في المواسم الصيفية في الريف.

نختم مع طقس كان يحدث بسبب تأخر هطول المطر، وهو طقس يسمى "أم الغيث"، فعند تأخر سقوط المطر، "كان يحمل الصبية والبنات بعض الدمى التي كانت تصنع من القماش، والتي كانت تسمى "عيبة"، ويبدؤون التجوال في أرجاء القرية، ويمرون بدورهم على كل منزل حيث يغنون بعض الأغاني التي توحي بسقوط المطر، ويقوم أصحاب المنازل بإعطائهم ما تيسر من قمح وبرغل ونقود وطحين، وهم يغنون:

"عَروستنا عَطشاني... يا رب ترِدا غرقاني

عروستنا مَهمومي... يا رب تردا مَبلولي".

(من كتاب فريال الشويكي السابق، منشورات وزارة الثقافة السورية).