مهما تطورت وسائل الاتصال الافتراضية بالنسبة للمغتربين يبقى للثقافة الواقعية ونشاطاتها حضورها المهم في بناء الإنسان وشخصيته الحضارية، يضاف إلى هذه الأهمية تحقيق تواصل حقيقي مع أهل الوطن والعالم في كلا الاتجاهين.

منذ تأسيس الجمهورية العربية السورية بدا الاهتمام واضحاً بمسألة التعامل الثقافي مع مواطنيها المغتربين؛ الذين تقدر بعض المصادر عددهم بنحو 35 مليوناً بين مغتربين أصليين وآخرين ينتمون إلى العائلة السورية لجهة الأب أو الأم أو أحد الجدود والأقرباء، وتجلى هذا الاهتمام بوجود مراكز ثقافية في عدد من عواصم العالم ذات القرار والفاعلية الثقافية العالمية مثل: "باريس"، و"واشنطن"، ودول أميركا الجنوبية.

بفضل النشاطات التي أقيمت هنا تعرّف الناس حقيقة الوضع في "سورية"، وعرفوا كم هي بلد مهم في تاريخ البشرية، هذه النشاطات قدمت الصورة المهمة والواقعية لجمهور قلما يعرف شيئاً عن المشرق العربي مباشرة دون المرور في فلترة الصحف والمجلات ووسائل الإعلام لهذه الصورة التاريخية والحضارية لـ"سورية"

لم يكن وجود هذه المراكز من باب الوجاهة، بل كان لبعضها دورٌ استثنائي، في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 12 شباط 2015، يقول الدكتور المهندس "مازن سعيد" المغترب في مدينة "ليون" الفرنسية، والمشارك في بناء منظومة الطرق الأوروبية: «المهم في أي مركز ثقافي أو فني هو العمل والعمل، ثم الكادر القادر على تقديم هذه الأعمال الثقافية والفنية بطريقة صحيحة وجاذبة، ولذلك من الممكن وضع معايير لعمل هذه المراكز ضمن مدة محددة والمحاسبة على ضوء هذه المعايير، هناك نظم عمل معروفة لدى العالم كله، ومنها نظم عمل المراكز الثقافية التي تتواجد في كل البلدان، والقرار في هذا الأمر لا يتعلق بنشاط ثقافي فقط بقدر ما هو هوية يتركها البلد في البلد الآخر كمعبر عنه وكصورة له في أعين تلك المجتمعات، على ضوء هذه الأنظمة يمكن العمل والمحاسبة والخروج بنتائج طيبة لهذه الأعمال بعيداً عن أية اعتبارات أخرى».

الفنان أحمد الصوفي

قدمت بعض هذه المراكز الثقافية فيما سبق عدداً جيداً من النشاطات الثقافية والفنية، وانتقل بعضها إلى إنشاء مدارس لتعليم اللغة العربية والمنهاج التعليمي السوري، كما هو حال "المركز الثقافي السوري" في "باريس"، الذي استضاف إلى جانب الشخصيات السورية شخصيات عالمية كان لها دور مميز في العلاقة مع "سورية" منهم "أندريه بارو" مكتشف "إيبلا"، ومدير متحف اللوفر الحالي في أسبوع ثقافي بمناسبة الذكرى الثمانين لاكتشاف "إيبلا".

في نفس الوقت، قدمت هذه المراكز صورة للآخرين عن الوطن السوري، فعرّفتهم حقيقته بعيداً عن اللعب الإعلامي والتشويه المتعمد لكثير من الحقائق، تقول "ريم علي" من الجالية السورية في "فنزويلا" ومقيمة هناك منذ سنوات: «بفضل النشاطات التي أقيمت هنا تعرّف الناس حقيقة الوضع في "سورية"، وعرفوا كم هي بلد مهم في تاريخ البشرية، هذه النشاطات قدمت الصورة المهمة والواقعية لجمهور قلما يعرف شيئاً عن المشرق العربي مباشرة دون المرور في فلترة الصحف والمجلات ووسائل الإعلام لهذه الصورة التاريخية والحضارية لـ"سورية"».

مدرسة تعليم اللغة العربية في ثقافي بارريس

هذه الصورة تضاف إلى ضرورة الاهتمام بها كما تقول الآنسة "جيهان محمد" (التي تعد لدكتوراه في اللغات السامية)، أهمية الاهتمام بالجيل السوري الجديد في المغترب، وتضيف: «المطلوب تفعيل دور الثقافة في الخارج والداخل لأنها صورة البلد الحقيقية، ولأنها الهوية الوطنية التي نعتز فيها بأننا سوريين، كذلك فإننا نحتاج إلى رعاية الجيل الجديد الذي تعرض لكثير من الضياع بفعل الأحداث الأخيرة، والثقافة وحدها هي من يحمينا من طوفان العولمة بكل أشكالها، ونحن قادرون على ذلك».

وعلى عكس ما سبق يرى الفنان التشكيلي "أحمد الصوفي" من محافظة "حمص" أن ثقافة المراكز الثقافية في الخارج والداخل لم تقدم شيئاً للبلد، ويؤكد أن المهم هو "ترميم مراكزنا وثقافتنا ولنلتفت إلى الداخل، ومن ثم ننطلق إلى الخارج"، بسبب أن "هناك العديد من المراكز الخارجية عالة على الوطن وعلى الوزارة؛ فموظفوها يجلسون من دون أي عمل مفيد، باستثناء عدد قليل منها لا يوجد لها تأثير يذكر في أي نشاط ثقافي أو فكري أو فني".

نشاط آخر في ثقافي الإسباني

وفي ظل انتشار كبير لثقافة العولمة، ولاتجاهات تغريب كثيرة، يبقى أمر الثقافة السورية خارج الحدود منوطاً بجملة من العوامل الداخلية والخارجية التي تلعب كلها دوراً في تشكيلها كصورة فاعلة ومؤثرة في علاقات الشعوب مع بعضها بعضاً قبل أن تكون علاقة أنظمة سياسية بعضها مع بعض.