العمل التطوعي مفهوم جديد في مجتمعاتنا، مشتق من ثقافة الإنسان المعاصر، وحاجة البشر إلى التعاضد فيما بينهم ليقدموا الأفضل مجتمعياً، وقد ظهرت الحاجة الماسة لهذا النوع من الأعمال أكثر بسبب الوضع الراهن في البلاد.

يعني العمل التطوعي (حديثاً) كل الأعمال التي يقوم بعض الناس خدمةً لأناس آخرين أو للمصلحة العامة، في قطاعات عمل مختلفة ولأسباب مختلفة، الأزمات الإنسانية في كل أشكالها، وتاريخ نشوئه قديم قدمَ وجود العلاقة التي تربط البشر بعضهم ببعض ككيان إنساني يتعرض بعضه أو كله لمشكلات ولأسباب مختلفة، ولكنه كمفهوم معاصر في النشوء لما بعد الحرب العالمية الثانية.

ما زال مجتمعنا غراً في هذا المجال، خاصة لكون المجتمع تابعاً للدولة بالمطلق في حركته، فإن البحث عن غرس ثقافة كهذه يحتاج لدعم كامل، أو على الأقل عدم عرقلة الأفكار والنشاطات، وتعميقها يحتاج إلى خطوات وبرامج طويلة الأمد، تبدأ من الأجيال الفتية لتغيير النظرة لمثل هذه الأعمال

عبر سنوات الأزمة المستمرة في "سورية"، طفت فكرة العمل التطوعي وانتشرت بكثافة شديدة، أثبتت وعياً وحاجة لتعزيز هذه الكيانات لخدمة الناس بعضها لبعض، يقول في حديث مع مدونة وطن "eSyria” بتاريخ 15 كانون الأول 2014، المتطوع "يوري رحال" (مترجم، من شباب الصليب الأحمر): «من تجربتي البسيطة، العمل التطوعي هو مصطلح بسيط يعني التبرع لأداء عمل بلا مقابل، وقد توسع المصطلح ليشمل كل الأنشطة المجتمعية والمدنية التي تصب في خدمة المجتمع والبلد، وفي غياب ثقافة المجتمع المدني وفهمه بوضوح، كان العمل التطوعي هو الباب الأوضح لشريحة الشباب والمهتمين والمثقفين للدخول فعلياً في مجال تقديم العون للواقع الصعب في البلاد، هذا المشروع الفكري لم يلقَ القبول الكافي من (بعض) الناس لأنه خارج ثقافتنا وإرثنا كما يقولون، ولذلك تقلص دوره ليغطي الواقع الخدمي في البلاد، مثل تنظيف طرقات، تزيين حدائق، رسم على الجدران، والمصاعب كبيرة، لقد فهم بعضهم العمل التطوعي على أنه القيام بمساعدة الدولة على القيام بالأعمال الخدمية، وهذه فكرة مغلوطة، الشخص المتطوع إنسان يسبق مجتمعه بخطوة ثقافياً ومدنياً».

من احتفالية دمشق بيوم التطوع

ورغم أن بعض الناس كانوا يصفون هؤلاء المتطوعين أحياناً بـ"المجانين"، ويعملون على تهميشهم لأسباب كثيرة، إلا أنهم استمروا بالعمل، يضيف السيد "يوري" قائلاً: «ما زال مجتمعنا غراً في هذا المجال، خاصة لكون المجتمع تابعاً للدولة بالمطلق في حركته، فإن البحث عن غرس ثقافة كهذه يحتاج لدعم كامل، أو على الأقل عدم عرقلة الأفكار والنشاطات، وتعميقها يحتاج إلى خطوات وبرامج طويلة الأمد، تبدأ من الأجيال الفتية لتغيير النظرة لمثل هذه الأعمال».

"عماد حلوم" من المتطوعين الشباب في "اللاذقية" وعمل في عدة مجالات تطوعية عبر سنوات الأزمة، يقول: «العمل التطوعي هو ما يميز المجتمعات الإنسانية عن بعضها الآخر لجهة قدرتها وتفوقها في تحقيق التعاضد والمساندة لأفراد المجتمع، في أوقات الأزمات وفي الأوقات العادية، في أوقات الأزمات يجب على كل من يقدر أن يقدم ولو أدنى خدمة للمصلحة العامة أن يبادر، الفكرة تنبع من ضرورة تعميق الحس الإنساني، عبر المحبة، فهذه الصفة هي التي تجعلنا نرتقي بأخلاقنا وتضامننا مع أولئك الذين من الممكن أن نكون مكانهم لسبب أو لآخر».

يوري رحال مع فريق قطرات ملونة

إذاً، فالعمل التطوعي ليس مجرد تبرعات، بل يشمل مختلف القطاعات والإمكانات الممكن تقديمها، في الأزمة السورية المستمرة ونتيجة لما يحصل، ظهر كثيرون من الناس بحاجة لأدنى المساعدات، من الأكل والشرب إلى الإيواء والمدارس والثياب والدفء والرعاية النفسية، وهناك من ينزل إلى ساحة العمل الميداني، يفتتح مراكز دعم نفسي واجتماعي، خاصة للنساء والأطفال الذين هم الشريحة الأكثر تضرراً في كل الأزمات المحلية والعالمية.

تتحدث المدرسة "ابتسام فرحات" التي عملت كمرشد نفسي واجتماعي في مبادرة قامت بها في أحد مراكز الإيواء عن تجربتها، فتقول: «بدأنا منذ عامين تقريباً بمبادرة ذاتية من مجموعة من الشباب والصبايا، غايتنا كانت تقديم الرعاية النفسية لأطفال المركز الذين تعرضوا للمشكلات النفسية والاجتماعية بعد نزوحهم من ريف المدينة، عدا عدم توافر رعاية الأهل لهم بسبب الظروف القاسية على الجميع، وتعرض بعضهم للضرب والعنف والخطف، وقامت فكرتنا على إحياء علاقتهم بالحياة عبر الرسم والفنون واللعب، فقمنا بتوزيع مواد الرسم عليهم والعمل معهم لتعليمهم كيفية تجاوز حالاتهم، والانطلاق برؤية متفائلة لقادم الأيام وكذلك استعادة علاقتهم بالمدرسة والدروس التي قدمها لهم مجموعة من الشباب والصبايا طوال العطلة الصيفية».

عماد في أحد المراكز

نفس هذه الأفكار الميدانية نفذت في مراكز إيواء المدينة الرياضية التي ضمت عدداً من مهجري البلد، فهنا تم افتتاح مدرسة للتعليم المسائي من قبل عدة جمعيات محلية قدمت كل ما تحتاجه العملية التدريسية من لوازم، بما في ذلك تأمين طاقم تدريسي مدرب للتعامل مع هذه الحالات التي تحتاج إلى رعاية خاصة ومتابعة مستمرة بكل أساليب الرعاية.