"التّنادي"؛ شاعتْ عند سكّان القرى طريقة "التّنادي" كوسيلةٍ لإخبار الأهالي بحدثٍ معيّن، حيث يتمّ التّنادي باللّغة العاميّة الدّارجة، كأسلوبٍ من أساليب التّواصل الشّعبيّ.

مدوّنة وطن "eSyria" التقتْ بعض النّاس، الّذين عايشوا هذه الظاّهرة في القرى، بتاريخ 23 تشرين الأول 2014، حيث تحدّث المزارع "لطيف عجميّة" من قرية "العيديّة" في ريف "جبلة" بالقول: «في ذلك الزّمن القديم، حيث لم تكن وسائل الاتّصال الحديثة قد انتشرتْ، كان صوتُ الإنسان وحده في القرى، هو الوسيلة الأكثر أهميّةً في إبلاغ النّاس بالأحداثِ المهمّة؛ كالوفاةِ أو ضياعِ طفلٍ، أو دعوةِ شباب القريةِ للتّجمعِ في مكانٍ مُعيّنٍ، للقيام بعملٍ مُشتركٍ كالحصاد، أو بناءِ بيتٍ طينيّ، وغيرها».

كان أهل القرى يتركون فتحةً وطاقةً، في بيوتهم الطّينيّة المُتلاصقة، لكي يتمّ التّخابرُ بسرعةٍ، في حالِ مُداهمةِ لصٍّ للقرية، أو وحشٍ، أو أيّ خطرٍ مُفاجئ

ويُتابع: «كان المُنادي شخصاً موثوقاً، ومحبوباً من قبل النّاس. وأحياناً كان يتمّ تعيينُه من قبل المُختار، ومن مميّزاته أن يكونَ قويّ الصّوتِ، لكي يصلَ إلى مسافاتٍ بعيدةٍ، تشملُ البيوت الطّينيّة المُتلاصقة، أو المُتباعدة قليلاً، حيث كانت بيوت قرية "العيديّة"، على شكلِ صفٍّ من البيوتِ المُتلاصقة الطّينيّة، بالقرب من شجرة "الشّوبيسة"، وبعض البيوت الطّينيّة الأخرى البعيدة قليلاً عن هذا التّجمع. وكان من أهمّ المُنادين في القرية، المرحوم "محمّد ميهوب القوزي" الّذي كان يختار سطحَ بيته للمُناداة، حيث كان يستخدم صياغةً مُعيّنةً للمُناداة، وليست عشوائيّة، فكان يقول قبل إخبار النّاس: "ياهو يا أهالي قرية "العيديّة" يا ناس صلّو على النّبي"».

المزارع "لطيف عجمية"

وختم حديثه بالقول: «ظلّت هذه العادة شائعةً، حتّى ثمانينيات القرن الماضي، حيث أخذت بعدها بالتّراجع، والاختفاء الكامل، مع دخولِ وسائل التّواصل الحديثة، وكثافةِ الأبنية الّتي تمنع وصولَ الصّوتِ طبيعيّاً».

التّاجر "لؤي عبّاس" من أبناء قرية "القطيلبية" تحدّث عن هذه العادة القديمة بالقول: «لقد عايشتُ هذه الظّاهرةَ في أواخرها، ولكنّ ذكراها لا تزال حاضرةً في أذهان كبار السّنّ، وأحاديثهم، وما يزال الحديث عن "الحجرة العيّاطة" أو "الصّخرة العيّاطة"، دليلاً حيّاً على عمقِ هذه الظّاهرة، وتداخلها مع نفسيّتهم، وانفعالاتهم وثقافتهم الاجتماعيّة، ولولا أهمّيتها لما أطلقوا هذه الصّفة على الحجر، الّذي كان يقف عليه المُنادي، وكأنّ الحجر يقوم بفعل "التّنادي"، ويخبر النّاس بما يريد».

غلاف كتاب "كان في قرانا" للباحث "حيدر نعيسة"

ويُضيف: «كان الحجرُ عادةً في مكانٍ مُرتفعٍ، على تلّةٍ أو جرفٍ صخريّ أو أعلى جبلٍ، حيث تتمّ رؤيةُ المُنادي، ولكي يصلَ صوته واضحاً إلى آذان السّامعين؛ حيث يقومُ بإخبار النّاسِ مع تلويح يديه يميناً، ويساراً، أو خفضها ورفعها. وكانت نغمة الصّوت توحي بأهميّة الحدثِ، من حزنٍ وفرحٍ أو استنفار النّخوة لمُساعدة النّاس».

وختم حديثه بالقول: «كان أهل القرى يتركون فتحةً وطاقةً، في بيوتهم الطّينيّة المُتلاصقة، لكي يتمّ التّخابرُ بسرعةٍ، في حالِ مُداهمةِ لصٍّ للقرية، أو وحشٍ، أو أيّ خطرٍ مُفاجئ».

حظيتْ ظاهرة "التّنادي" باهتمام الباحثين الّذين أرّخوا لعادات القرى، حيث قال الباحث "حيدر محمّد نعيسة" في كتابه "كان في قرانا": «تطوّرت أساليبُ النّداء في سياق تطوّر اللّغة، والحياة، وهي بذلك تمثّل صورةً مُتحوّلةً عن الأجيال، وأحوالها؛ فاللّهجة العاميّة تشبه متحدّثها نصف الأمّيّ البعيدِ، عن التّعقيدِ والضّبطِ والتّقنيّة».

وعن "المُنادي" خاصّة يقول الباحث "نعيسة": «شهدتْ القرى ظاهرةً، احتضرتْ وماتتْ مع تغيّر العلاقاتِ الاجتماعيّة، وانكماشِها، ودخولِ عناصرَ ومفاهيمَ جديدةٍ إلى القرية، تلك الظّاهرة هي ظاهرة "المُنادي"؛ وملخّصها أن يعتليَ رجلٌ سطحَ بيتٍ عالٍ، يتوسّطُ حاراتِ القرية، بعد اجتماع عقّالها، وأصحابِ الرّأي والكلمة فيها؛ كالمختار والشّيخ والمُعلّم، وهناك ينادي بأعلى صوته عند العصر، أو القيلولةِ: "يا أهل النّخوة، يا أهل قرية كذا.. يا عالم يا هو، وغيرها من جُمل النّداء، ثم يعرض الأمرَ بالصّوت العالي ذاتِه، كأنْ يُخبر عن الحادثة الطّارئة على القرية من فرحٍ وحزنٍ، أو يدعو لمُساعدةِ رجلٍ مُصابٍ، أو منكوبٍ أو حفرِ قبر ميّتٍ، أو للمعونة في أعمالٍ، تحتاج جماعةً لتنجزَها كالتّطيين، وعمارةِ البيوت».