لرائحتها المنفرة دور في انخفاض شعبيتها، ومحدودية انتشارها، ولكنها ما تزال حتى الآن مادة غذائية مرغوبة في على مائدة الإفطار وفي السهرات، بقدر ما هي مثيرة للجدل، سواء بطريقة تصنيعها، أو بطبيعة فوائدها الغذائية. تروى أحد النكات الشعبية عن أن مهاجراً سورياً حاول نقل بعض من أقراص "السوركة" في حقيبة سفره إلى أحد البلدان الغربية لمحبته لها، إلا أن الشرطة هناك أوقفته لدى تفتيشه في المطار، بتهمة أنه إرهابي ومشتبهة أنه يحمل مواد قابلة للإنفجار، فقامت على الفور باستدعاء خبير متفجرات لتحليل هذه العينة الغريبة.

لم تكتمل النكتة لتخبرنا ماذا حل بالمسافر، ولكنها تشير بكثير من الدلالة إلى مدى جهل الغرب بهذه المادة. "السوركة" تلك المادة الغذائية التي عرف بها السوريون خاصة، معروفة أيضاً بشكل محدود في لبنان، وفلسطين، والأردن، وتكاد تكون مجهولة خارج المنطقة العربية، ويختلف إنتاجها باختلاف البلدة، أو المنطقة، التي تصنعها، وبالتالي يختلف طعم "السوركة"، ولونها، ومميزاتها من منزل لآخر باختلاف المصدر، وطريقة الصنع.

إن تعريض "السوركة" للهواء يساهم في تجفيفها، وبالتالي يقوم القرويون بوضعها في الهواء الطلق، أما عندما توضع في مكان مغلق ورطب، فإن عملية تعفن تصيب الأقراص وتؤدي إلى انبعاث هذه الرائحة منها

تصنع "السوركة" في بعض قرى الجبال الساحلية السورية بطريقة بسيطة للغاية، ففي قرية "شلف" الواقعة في منتصف المسافة بين مدينتي "اللاذقية" و"إدلب"، يبرع السيد "عدنان الشيخ" في صناعة هذه المادة، حيث يحضر مادة "القريشة" من مدينة "حمص"، ليستطيع إنجاز الكميات الكبيرة التي ينتجها، وقد حدثنا عن كيفية صنعها قائلاً: «أستخدم "قريشة" حليب الماعز، أو الأبقار، ولكل من هذين المصدرين طعم وميزة خاصة، فأمزج "القريشة" بمعجون الفليفلة، والملح وأدعكها جيداً، ثم أكورها على شكل أقراص صغيرة، ثم أضعها في الهواء لمدة يومين متتاليين، بعدها أجمعها وأرش عليها الزعتر البري، وتصبح جاهزة للأكل مباشرة».

في قرية أخرى السيد "محمد محمود" ينتج أنواعاً مختلفة من السوركة في منشأته الصغيرة في قرية "بيادر الدرة" التابعة لناحية "بستا"، فيضيف لمنتجه أنواع كثيرة من التوابل، والمنكهات المحلية، مما يساعده على إنتاج "سوركة" بنكهات مختلفة، فيضيف الزعتر البري، وحبة البركة، والكزبرة، والشمرة، والسماق، ومواد أخرى يعتبرها سر المهنة، وتنوع الخلطات ليس السبب الرئيس لتنوع منتجاته فلكل نوع طريقته الخاصة وتسميته الخاصة.

ففي زيارة خاصة لمنشأته ذكر لنا مراحل وخيارات متعددة في إنتاج هذه المادة قائلاً: «ترتبط تسمية المنتج بحسب مراحل وطريقة صنعه، حيث تستخرج المادة الأساسية من الحليب مباشرة بالغلي تحت تسمية "قريشة"، وهي نوعين: مسحوبة الدسم، وكاملة الدسم، حينها تجفف وتعجن مع الخلطة المختارة من المنكهات، إضافة إلى الملح، وهنا يمكن أن تباع في الأسواق مباشرة تحت تسمية "قريشة"، لكن إن نحن وضعناها لتجف في الهواء الطلق ما يقارب يومين، فإنها ستأخذ بذلك إسم"شنكليش"، والفارق الرئيس بينها وبين "القريشة"، يكمن في إمكانية حفظها، فحفظ القريشة تحتاج تبريد، لكن "الشنكليش" يمكن حفظة أشهراً دون أن يتلف في درجات حرارة معتدلة»

تغطية الإقراص بالتوابل

لعل أكثر المراحل إثارة للجدل في تصنيع "السوركة" هي المرحلة التي تلي إنتاج "الشنكليش" كما شرح "محمود": «في تلك المرحلة توضع الأقراص في مكان مغلق لايدخله الهواء، لينموا عليها عفن أبيض بسماكة تقارب 3 ملم، بعدها تنظف الأقراص، ويزال العفن بأداة حادة ثم توضع في الخزن بشكل عادي، حينئذ تكون قد أصبحت مادة قاسية، وبلون بني داكن، وهذ بالتأكيد من دلائل النضج، حيث تصبح حينها "سوركة" حقيقية».

تستخدم هذه الطريق بجميع مراحلها أو بأجزاء منها في الساحل السوري عامة، ولكن "محمود" يستخدم طريقة أخرى أيضاَ شائعة في المناطق الداخلية من سورية كالقرى الشرقية، والشمالية الشرقية من محافظة "حمص"، وهي أن يترك "السوركة" لأن تتصلب، وتصبح شديدة القساوة، عندها يقوم بتفتيتها بالدق في وعاء نحاسي "الهاون" لتصبح مسحوقاً جافاً غير متماسك، هنا يمكن إعادة التماسك إليها بخلطها بسوائل مختلفة، كزيت الزيتون، أو الحليب، أو اللبن.

السيد عدنان الشيخ مع منتجه

تشير المراحل المتعددة في إنتاج "السوركة" إلى جهود بذلها المنتجون الأوائل للحفاظ عليها كمادة غذائية بعيداً عن التلف، ليتمكنوا من تخزينها في درجات حرارة مختلفة، دون الحاجة لمبرد، وما عملية التعفين سوى عملية شبيهة بعملية تقطير "الخمر" أو صناعة "الخل" وجميع تلك المواد لا تحتاج لتبريد بل هي منتجات طورها المزارع السوري ليتمكن من تخزين مواد غذائية لفترات طويلة.

بعكس المنتجات الأخرى كالجبن واللبن، وبالتالي يظهر لنا تساؤل عن مدى القيمة الغذائية لهذا المنتج بعد كل تلك المراحل، ولذلك إلتقينا المهندسة الزراعية "نسرين دمسرخو"، التي تختص بالإنتاج الحيواني، وقد أجرت دراسات متعددة على مادة "السوركة" وعنها تقول: «تتميز السوركة بانخفاض نسبة الدهون فيها بشكل كبير، كما تحوي نسبة عالية من مضادات الأكسدة، وهي تمنع تشكل الجذور الحرة في الجسم، وتلعب هذه المواصفات شأناً في الحفاظ على شباب الجسم ومحاربة الشيخوخة».

أما عن سبب صدور رائحة غير محببة من السوركة فقالت لنا "نسرين": «إن تعريض "السوركة" للهواء يساهم في تجفيفها، وبالتالي يقوم القرويون بوضعها في الهواء الطلق، أما عندما توضع في مكان مغلق ورطب، فإن عملية تعفن تصيب الأقراص وتؤدي إلى انبعاث هذه الرائحة منها».

بعد عملية بحث طويلة لم نهتدي لتسمية مشتركة لهذه المادة ففي كل منطقة تحمل اسماً يختلف عن الأخرى خلافاً قد لا يقل جدلية عن مدى أهمية هذه المادة المتأصلة في الثقافة الغذائية في سورية.