تجربة ثريةٌ جالت بين عوالم الشعر والتشكيل لتصنع لصاحبها حضوراً مميزاً جمع بين الأصالة والحداثة في كلا العالمين، وفوقهما حقق حضور الإنسان النبيل حيثما حل.

ينتمي الفنان والشاعر "زهير غانم" (1949-2010) إلى آخر جيل سوري بقي مرتبطاً بالجدل الحداثي، وأقرب ما يكون في هوية إبداعه إلى الفهم الكلاسيكي للفن والأدب عموماً، وبهذه الصفات كتب ورسم وإن تخللت أعماله بعض الانتقالات باتجاه تكوين صورة مفارقة عن بقية أبناء جيله ممن اشتغلوا بالإبداع في الثمانينيات وما تلاها حتى رحيله المفاجئ.

كان قريباً كل القرب من تقديم الفرح لكل من عاشره من أصدقاء وأقارب، في كل زيارة كان يأتي بها من "بيروت" لم يكن ينسى أحداً من أصدقائه

في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 10 شباط 2015، عقب افتتاح معرض استعادة للراحل في مقهى "هيشون" في "اللاذقية"، يقول رفيق دراسته الدكتور "جهاد عطا الله نعيسة" أستاذ الأدب الحديث في "جامعة تشرين" حول تجربته الفنية والحياتية: «كان الفنان والشاعر "زهير غانم" مسكوناً بالفن والرسم منذ الطفولة، جمعتنا اهتمامات مشتركة بدءاً من الرسم وانتهاءً بالأدب، انتمينا معاً إلى مركز الفنون التشكيلية في المدينة، وشاركنا في عدة معارض فنية أيضاً، إلا أن "زهير" مال أكثر باتجاه الأدب والشعر، ولكنه بقي يرسم ويطور في تجربته الفنية حتى وصل إلى مراحل متقدمة في التعامل مع اللون والموضوع التشكيلي».

الشاعر "منذر مصري"

تخرج الفنان الشاعر في جامعة "دمشق" قسم الأدب العربي عام 1972، وأصدر حتى مطالع الثمانينيات عملين شعريين هما: "أعود الآن من موتي" عام 1978، و"التخوم" في العام التالي، لينتقل بعدها إلى "بيروت"، ويقول ابنه "مهيار": «قضى هناك نصف حياته، حيث عمل في الصحافة الثقافية في "بيروت" أكثر من نصف حياته، وكتب عن كثيرين من الفنانين والشعراء السوريين بتقدير وحب شديدين أصّلا الطابع الإنساني الذي تعامل به مع العالم».

وعبر أربعة عشر ديواناً شعرياً لاحقاً كان آخرها "مشتبه سيرة ذاتية" (صدر عام 2011 عن دار الدوسري للثقافة، "البحرين") سجل حضوره كشاعر عربي في المشهد الثقافي، نشرت له كبريات الصحف العربية قصائده التي اشتهرت منها قصيدته "محاولة في تربيع دمشق الدائرة"، بشهادة قدمها الشاعر السوري "منذر مصري" في كتابه "انعطافة السبعينيات في الشعر السوري" (دمشق عاصمة ثقافية – 2008) على أن هذه الشعرية الدافقة وبصور مختلفة، ومجمل مواضيعه الشعرية لم تخل أبداً من تلك الانعطافات البصرية باتجاه اللوحة الفنية، فهنا لوحة مجسدة بالكلام، وهناك لوحة مرسومة بالريشة.

من لوحات "زهير غانم" الأخيرة

ويضيف "مصري": «في الصورة العامة لشعره، هناك توغل دائم في مفازات الأنا والآخر بلغة الحساسية العالية الحضور، وفي هذا الحساسية الجامعة تأصيلٌ لقصيدة تنتزع شرعيتها من انتمائها إلى رحابة الشعر وتدفقه وتناسل صوره لا من انغلاقها على الفكرة أو المعنى المحددين، وهي تختلف بذلك عن مفهوم القصيدة المغلقة أو المقننة التي تقدم المعنى عبر الحد الأدنى من المفردات الموازية، وبتقديمها على أصولها دون الغرق في الآخر، أياً يكن هذا الآخر؛ حداثة نثرية أم من تلك التي يسمها شعراء العربية بضرورة الانتقال من الصورة التقليدية إلى الحداثوية دون المرور بمطهر "الأنا والمجتمع"، إنه ذلك الشعر الذي لا يزال محافظاً على ألقه في المعنى واللفظ والمبنى أيضاً».

في شهادتها الفنية عن أعماله الفنية تقول الفنانة "هيام سلمان": «ما يثير الاهتمام في تجربة الراحل "زهير" هو هذه الشعرية الواضحة في لوحاته، فهو كأديب وشاعر استطاع أن يكتب قصيدته الخاصة من خلال لوحاته التي حمّلها شحناته الانفعالية والتعبيرية واللونية، إنها وحشية منفلتة من عقالها ومن كل قواعد إلا قواعده الفطرية الخاصة، تتجسد بألوان حارة حيناً وباردة حيناً آخر، خيوط لينة ليونة جسد تلك الإناث اللواتي تتجاورن وتتحاورن وسط أشكال هندسية تحيط بهن كأنما تحاصرهن لكنها لا تفعل، أعتقد أنه حتى في لوحات الطبيعة أو البورتريه أو الأحصنة لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يدعنا نرى تلك الضربات القوية المتمردة لقلمه وريشته، لقد جسّد إيقاعاً خاصاً كان هو عالمه».

من أعماله أيضاً

من أبرز أعمال "زهير" الشعرية: "مدائح الأشجار"، و"الشاهد"، و"أحوال الشخص المتباعد"، و"مجرة الرغبات"؛ وقد صدرت عن اتحاد الكتاب العرب في عقدي التسعينيات والثمانينيات، إضافة إلى عشرات اللوحات الفنية الموزعة بين "بيروت" و"اللاذقية" بعضها بورتريهات بالأبيض والأسود لشخصيات خبرها وتعامل معها، ولوحات ملونة عن مواضيعه الأليفة وهي رسم المكان والطبيعة والأحصنة والمرأة في عريها الجميل.

في علاقاته الإنسانية والثقافية بقي الرجل مخلصاً للحياة وللقرب من منابعها الثرة، يقول ابنه الوحيد "مهيار" في حديثه معنا: «كان قريباً كل القرب من تقديم الفرح لكل من عاشره من أصدقاء وأقارب، في كل زيارة كان يأتي بها من "بيروت" لم يكن ينسى أحداً من أصدقائه».

رحلة "زهير" من حواكير "بسنادا" إلى شوارع "بيروت" والجنوب اللبناني خلخلت وعياً تقليدياً، وأضافت إلى التجربة سمات منفتحة على ثقافات العالم الأخرى، كما أعطتها بعداً تمثل في الاقتراب من منابع الحركة الثقافية العربية في عز اشتغالها على نفسها؛ محاولةً تحقيق إطار جامع لثقافة كونية عربية تحمل همها ليس كنداء موجع بقدر ما هو كصرخة في ظلام العالم بحثاً عن صدى قادرٍ عبر الإبداع على إنجاز مهمة تخليص العالم من ضجيج الهباء، وإنه لفعلٌ حقٌ.