الفكر هو ابن الواقع، ومتى ما فارقه يحتاج إلى إعادة ضبط وتجديد وتوجيه للبوصلة إلى موقعها الحقيقي، وهذا ما فعله المفكر العربي الراحل "إلياس مرقص" ابن الفكر الإنساني الحقيقي.

ما تميز به الراحل "مرقص" كما يقول في حديث مع مدونة وطن "eSyria” الكاتب والباحث "عيسى أبو علوش"، بتاريخ 5 كانون الثاني 2015: «أنه كان منفتحاً على كل الآراء والتوجهات الاجتماعية والسياسية، رافضاً احتكار الرأي لأي كان، تعليمه الفلسفة لأجيال كثيرة، غدا بعض من درسهم أعلاماً في الفكر في كل البلاد، وكثيرون من جيلنا يذكرون السمعة الطيبة التي حظي بها في كل أرجاء المدينة، فقد كان صديقاً للطلاب والمعلمين وللمثقفين ولمن لم يفتح كتاباً في حياته».

أنه كان منفتحاً على كل الآراء والتوجهات الاجتماعية والسياسية، رافضاً احتكار الرأي لأي كان، تعليمه الفلسفة لأجيال كثيرة، غدا بعض من درسهم أعلاماً في الفكر في كل البلاد، وكثيرون من جيلنا يذكرون السمعة الطيبة التي حظي بها في كل أرجاء المدينة، فقد كان صديقاً للطلاب والمعلمين وللمثقفين ولمن لم يفتح كتاباً في حياته

ولد المفكر الراحل "إلياس دانيال مرقص" في مدينة "اللاذقية"، في 29 أيلول عام 1929، ينتمي لعائلة اشتهرت باشتغالها في التربية والتعليم، ففيها الأساتذة والمعلمون الذين درسوا مختلف المواد، وبالأخص العلوم النظرية والعملية وعلم نفس الطفل، وقد أثرت هذه البيئة الخصبة في تفكيره، إضافة إلى الجو العام الذي قدمته له مدرسة "الفرير" المختلطة لجهة علاقاته مع مختلف أبناء المدينة والريف، ولجهة تعلمه عادات النظام والترتيب والمواظبة والدِّقة وإتقان العمل، كما يقول الراحل في كتاب "حوار العمر: أحاديث مع إلياس مرقص" نشر 1999مع الكاتب "جاد الكريم جباعي"، (عن دار حوران للطباعة والنشر والتوزيع).

غلاف أحد كتب إلياس مرقص

درس في مدينة "اللاذقية" في مدرسة "الفرير" (الكلية الوطنية لاحقاً)، وحصل على الثانوية القسم الأول (العلمي) في عام 1945، ثم القسم الثاني فرع (الفلسفة) عام 1946، وعلى شهادة مرشح في العلوم الاجتماعية، وإجازة في العلوم البيداغوجية (التربوية التعليمية) عام 1952 من جامعة "بروكسل" الحرة، حيث كان من أوائل الطلاب الموفدين إلى الخارج بعيد الاستقلال.

مارس تعليم الفلسفة في المدارس الرسمية والخاصة حتى عام 1979، وعبر سنوات حياته كان مثالاً للمفكر الإنسان الذي يجمع القول والفعل. تعرف أثناء الخدمة الإلزامية المفكر القومي العربي "ياسين الحافظ"، الأمر الذي ترك أثره الكبير في حياة الرجلين، فكل منهما ينتمي إلى مدرسة فكرية مختلفة، وكل منهما عرّف الآخر بهذه المدرسة، ونشأ بينهما حوار فكري أغنى المكتبة العربية بكثير مما تحتاجه من مراجعات نقدية للنظريات الفكرية وأهم الطرائق لربطها بالواقع، علماً أن "مرقص" تعرف الفكر الماركسي منذ مطالع الخمسينيات ولكنه طرد من الحزب الشيوعي السوري عام 1956 لمطالبته بالديمقراطية الحزبية، وتعرض للضرب والإيذاء الجسدي أيضاً.

غلاف العقلانية والتقدم

تنقسم حياة "مرقص" الفكرية الثقافية -كما يقول الكاتب "فارس سعد" في مقال له عن الراحل في جريدة العرب اللندنية (العدد 9569)- إلى عهدين: «يمتد الأول من منتصف الخمسينيات؛ حيث بدأ التأليف والترجمة حتى منتصف السبعينيات، وهو العهد الذي كتب فيه معظم مؤلفاته المعروفة، مثل: "نقد الفكر المقاوم - الجزء الأول (عفوية النظرية في العمل الفدائي)". "الستالينيه والمسألة القومية" (بالاشتراك مع جمال الأتاسي، وعبد الكريم زهور، وياسين الحافظ). "نقد الفكر القومي عند ساطع الحصري"، إضافة إلى ترجمات مهمة أيضاً».

يمتد العهد الثاني من منتصف السبعينيات وحتى نهاية الثمانينيات وهو العهد الذي اتّسم أكثر بتفرغه تقريباً لشؤون الترجمة، و"استأثرت فيه الفلسفة بالحيز الأكبر من نشاطاته وجهوده، حيث ترجم ثلاثين كتاباً لكل من: "ماوتسي تونغ، وهيغل، وماركس، ولينين، وفيورباخ، وروجيه غارودي، وجورج لوكاش، ومكسيم رودنسون"، كما شارك في العديد من الندوات الفكرية عربياً وعالمياً، وترك عدداً من المخطوطات الفكرية لم تنشر، ومنها: "نقد المادية الجدلية والمادية التاريخية"، وكتاب "المغايرة، الكون والتاريخ"، وصدر له عن دار "الحصاد" في "دمشق" بعد رحيله كتابه المهم جداً "نقد العقلانية العربية"؛ الذي يعد أوسع مراجعة نقدية للفكر العربي تفوق فيه على كثيرين من أساطين الفلسفة والفكر في العالم العربي.

حوارات لم تنشر

بعيد انهيار المنظومة الاشتراكية مطلع القرن الحالي تمت إعادة الاعتبار إلى "إلياس مرقص" من قبل الحزب الشيوعي السوري واعتباره أحد أهم مفكري الحزب. ساهم الراحل في إنشاء مجلة "الواقع" الفصلية الفكرية الثقافية، في بيروت 1980ـ1982، وفي إنشاء مجلة "الوحدة" الشهرية التي صدرت عن المجلس القومي للثقافة العربية في "باريس" 1984، لمدة عقد كامل تقريباً. إضافة إلى تأليفه العديد من المؤلفات المتعلقة بالماركسية العربية وبنقد الفكر القومي العربي، يضاف إليها عمله في الترجمة، وقد اعتاد كتابة مقدمة مطولة منه، تعادل أهميتها أهمية الكتاب المترجم نفسه.

كتب عنه المفكر "عبد الله تركماني" يقول: «لم يترك "مرقص" لحظة من حياته إلا ووظفها فيما كان يسميه "جرد الواقع" والتعرف إليه، وفي التحصيل المعرفي والفكري، الذي حوّله إلى متابع لتظاهرات الواقع العربي والعالمي في حياة ووعي الإنسان، وإلى طالب معرفة لا يكلُّ، يصل ليله بنهاره في عمل عقلي دائب، قاده إلى طرق جميع مجاهل ودروب المعرفة على وجه التقريب، وإلى العمل طوال أربعين عاماً ونيف بوتيرة لا يكاد المرء يصدق أنّ لها مثيلاً في حياتنا، تعرّف خلالها إلى التاريخ والاقتصاد والفلسفة والمنطق وعلم النفس والاجتماع والسياسة واللاهوت وتاريخ الفن والرياضيات».

ولا عجب فهذا الرجل كان يعمل اثنتي عشرة ساعة يومياً.

توفي الراحل عام 1991 في "اللاذقية"، وأقيم له عدة حفلات تأبينية؛ كان أهمها في "صلنفة" العام التالي لرحيله من قبل مجلة "الوحدة" التي ساهم في تحريرها، عرف عن الراحل التواضع والصدق والانفتاح على الجميع وتقبّل الآراء مهما كان مختلفاً معها.