سرقه الموتُ غداة افتتاح معرضه الأول في "سورية" بعد غياب طويل عن العرض فيها، "حلم الحجر" الاسم الذي اشتهر به، ترك بصمة مميزة في عالم النحت، وانتشرت أعماله في بقاع عديدة حاملة أسلوبه الفني الغني بالرمزية والتمرد على الواقع.

ولد النحات الراحل "وليد محمود" في قرية "سلْمية" التابعة لناحية "الدالية" من ريف "اللاذقية" عام 1973، درس في مدارس قريته متماً الثانوية في قرية "بعبدة" لينتقل بعدها إلى معهد إعداد المعلمين في "حلب" منهياً اختصاصاً في التدريس، ويعود مدرساً في ابتدائية قريته.

انطلقت من هناك من متحف الأستاذ "جون رزق الله" في بلدة "شكا" بأجر يومي واحتضان من السيد "رجا يونس"، وظل عملي في النحت محصوراً هناك حوالي ست سنوات، ثم عدت إلى "سورية"، واحتضن أعمالي رجل الأعمال السوري "منذر ناصر"، حيث أقام معرضي الدائم في منتجع "حكايا السياحي"؛ وهو من أهم الصروح السياحية في الساحل السوري

عبر هذه السنوات تعلم الراحل فن النحت تعليماً فطرياً على يد جده لأمه الذي كان "فلاحاً ومعمارياً" يقوم ببناء السلاسل الجبلية في المنطقة، يتحدث لمدونة وطن “eSyria” شقيقه "طارق" بتاريخ 5 تشرين الثاني 2014 فيقول: «كانت العلاقة التي ربطت جدي بـ"وليد" أكثر من مجرد علاقة حفيد بجده، فجدي رجل عصامي تعلم إلى جانب الزراعة المهنة الأشق في الجبل، وهي البناء بالحجارة، وتعلق "وليد" به، فكان يدربه على النحت باستخدام خشب القطلب والطين المتوافر كثيراً لدينا، فقد كان يصنع له ألعاباً يحفرها على الخشب، ومع المراقبة تعلم "وليد" كيف يعدل بعض الألعاب الخشبية التي كان يصنعها، وعلمه الجد الحفر على الخشب».

هنا كان ينحت في سلمية

ومن ثم انتقل إلى الطين، وكانت ولادة أول عمل نحتي له كما يقول النحات الراحل في حوار سابق معه: "منحوتة من نسج أحلامي تصور فتاة حافية القدمين؛ خارجة من كهف منحوتة على حجر "دب الملح"، وكل من رأى تلك المنحوتة أطلق عليها اسم الملكة المتشردة"، وتعددت بعد ذلك أعماله الفنية ومواضيعه وكان لافتاً فيها دوماً الخروج عن النسق الكلاسيكي في النحت إلى رحابة الفطرية التي كان دوماً يشعر بالاعتزاز بها.

لم يستهو الطين ولا الخشب كثيراً "وليد" بعد أن تعلم النحت على الحجارة وتشكيلها، فكان ينحت عليها مختلف الرسوم ويقوم بتشكيلها مستغرقاً كل الوقت فيها، يقول شقيقه، وقد صمم على متابعة طريقه في عالم النحت رغم عدم تقدير المجتمع للموهبة التي يمتلكها النحات الراحل، ولكن هذا زاده إصراراً وعزيمة، فبقي ينحت وانتقل تدريجياً إلى استخدام كتل الجرانيت الصلبة في النحت ليقدم عليها وفيها رؤيته للعالم والحياة.

مع زوجته الفنانة "دنيا الصالح"

انتقل النحات الراحل من ثم إلى "بيروت" لمتابعة طريقه النحتي، فعمل هناك في إحدى الورشات معلماً للصحية ومتابعاً في نفس الوقت عمله النحتي، يقول في حوار سابق له معنا: «انطلقت من هناك من متحف الأستاذ "جون رزق الله" في بلدة "شكا" بأجر يومي واحتضان من السيد "رجا يونس"، وظل عملي في النحت محصوراً هناك حوالي ست سنوات، ثم عدت إلى "سورية"، واحتضن أعمالي رجل الأعمال السوري "منذر ناصر"، حيث أقام معرضي الدائم في منتجع "حكايا السياحي"؛ وهو من أهم الصروح السياحية في الساحل السوري».

ثم جاءته فرصة المشاركة بملتقى النحت العالمي المقام في "أثينا" عام 2002، وفي ذلك الملتقى نال الجائزة الثانية أمام مشاركين من كافة أنحاء العالم، وكانت المرة الأولى التي ينال فيها نحات عربي هذه الجائزة، هذا الدأب نحو العالمية تجسد لاحقاً بمشاركاته في كبريات ملتقيات النحت العالمية مقدماً نموذجاً مميزاً للتسويق الفني فاجأ الكثيرين من الفنانين المحليين.

من منحوتاته في معرض نخل وسنديان

استمر الراحل بعزيمته في عالم النحت، يقول في حديث سابق مع المدونة: "بقدر ما أفرحتني الجائزة بقدر ما حملتني عبئاً كبيراً، فمن تلك اللحظة، بات عليَّ التدقيق والانتباه إلى مستويات الأعمال التي أقدمها للجمهور أكثر من قبل، ولم يعد الخطأ مسموحاً".

وبهذه الروح قدم الراحل بعضاً من منحوتاته في "غاليري أكواريوم" غداة افتتاحه صيف العام الماضي.

يرى الراحل أن النحت "مهنة سامية، وحاجة ورسالة إنسانية بحتة، فالنحت يجب أن يحمل رسالة نقدية ووجدانية، وهذه الرسالة إذا لم تخدم المرحلة التي نعيشها ستكون رسالة ناقصة ومشوهة، عموماً الفن المنبثق عن المجتمع، الذي لا يخدم المشكلات الآنية لهذا المجتمع فإنه لا ينتمي له، ومن ثم يعد هذا الفن من عالم آخر، بالنهاية لا يوجد فن هابط، ولكن يجب أن نلاحظ إلى أي مدى يلامس هذا الفن وجدان الواقع، والمتلقي هو الحكم الذي يقرر، وإن لم يلامس هذا العمل المتلقي لا يستطيع الحكم عليه، فالفن رسالة ملأى بالوجدانية والحميمية؛ وهذه الرسالة شديدة الخصوصية وتخدم أشياء سامية، وأي شيء يفيد الإنسانية هو سامٍ وبنّاء".

في معرض "نخيل وسنديان" بيروت العام الحالي، حضر الشاعر السوري الكبير "أدونيس" المعرض، وأدلى بشهادته حول فن الراحل، فقال: "ليس حجر أومفالوس في دلفي، ليس حجر الكعبة الأسود، ليس الحجر الذي سيختزن الظهيرة أعلى الهرم الكبير، ليس حجراً كريماً من ماس أو ياقوت أو زمرد، ولم يأتِ من السماء، ولم تقذفه الشمس، لكنه حجر الإضاءة القصوى، التي لن تقبل النقصان".

من جهته الشاعر والناقد السوري المغترب حالياً في "ألمانيا" "أحمد إسكندر سليمان"، قال في نفس المعرض تعليقاً على أعمال الراحل: "لكل جسد هدف واتجاه، الهدف هو اللذة، والاتجاه هو الموت، وهذا الهدف وذاك الاتجاه متناقضان إلى الأبد، فاللذة سوف تعمل على المحافظة على النوع في مواجهة الموت، وهي بذلك تخلق الحشد، وهي أيضاً ستحاول تحدي الموت وتجاوزه، وهي عند ذلك تخلق الفن الذي سيتناقض مع الحشد الذي سينتج السلطة في مواجهته للموت، ستتناقض السلطة مع الفن أولاً، ومع الحشد تالياً عندما تنفصل عنه؛ مع الفن، لأن قدرته على اللعب سوف تتجاوز إمكاناتها كنظام للتحكم، ومع الحشد، لأن تحولاته -ولو بفعل الدبيب- أقوى من وهم وجودها الثابت".

بلغت أعمال الراحل النحتية نحو 300 عمل نحتي موزعة في مختلف دول العالم، وأغلبها مقتناة، نال اعترافاً دولياً بعضوية جمعية النحاتين الدوليين في الولايات المتحدة وفي بريطانيا وبلجيكا، عرض في "الرياض والشارقة ودبي ولندن"، وكان آخر معرض مشترك له في "بيروت" الشتاء الماضي مع الفنانة "دنيا الصالح"؛ في معرض "نخل وسنديان" في "غاليري أكواريوم".

اختطفه الموت عشية افتتاح أول معرض نحتي له في مدينته التي أحبها حتى العشق، "جبلة"، وقد تعهد أصدقاء الراحل بافتتاح معرضه في ذكرى أربعينه نهاية هذا الشهر، لقد مثلت أعماله صرخة جديدة في عالم النحت، اختصرتها زوجته الفنانة "دنيا الصالح" بعبارة واحدة: "وليد، لا يختصر".