هو أول بطريرك عربي للروم الأرثوذكس في المشرق بعد حقبة البطاركة اليونان، عرف عنه اهتمامه بالعلم ومتابعة شؤون الرعية اجتماعياً وروحياً، ويقول الباحثون إنه أحدث نهضة في الكرسي الأنطاكي خلال تلك الحقبة.

هو "ميخائيل بن موسى الدوماني"، ولد في "دمشق" في 8 تشرين الثاني 1837م نشأ فيها والتحق بمدرستها البطريركية، فدرس مبادئ اللغة العربية والتركية واليونانية والإيطالية قبل أن يميل نحو الحياة الرهبانية والكهنوتية ويتلقى علومها ويتقن مبادئها.

رأس الفضائل المحبة فاقتنوا محبة بعضكم بعضاً ليس بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق

قدّم نذوره الرهبانية سنة 1857 متخذاً اسم القديس "ملاتيوس" شفيعاً له، ونال من البطريرك "إيروثيوس الأول" (1850ـ 1885) اهتماماً وعناية فسامه شماساً في العام 1860 وقدّر له البطريرك أتعابه ومحبته وإخلاصه وتفانيه فرّقاه في درجات الكهنوت إلى أن سمي مطراناً على "اللاذقية" في 19 تشرين الثاني من العام 1865.

الأب "اسبيريدون فياض"

مطران "اللاذقية" الجديد بدأ مشروعه النهضوي منذ اللحظة الأولى، ويقول الأب "أليكسي نصور" في حديثه لمدونة وطن "eSyria" في 10 آذار 2014: «بدأ جمع الكنائس إلى قلم واحد، وأسس مدرسة للذكور على أفضل مستويات التعليم حينها وذلك من خلال دعم الجمعية الإمبراطورية الروسية الأرثوذكسية، وخصص واردات الأوقاف للمدرسة إيماناً منه بأهمية الثقافة والعلوم في خلق مجتمع متحضر ومنفتح، جدد سبع كنائس في الأبرشية وأسس جمعيتين تخدمان حتى اليوم، الأولى هي "الجمعية الخيرية الأرثوذكسية" لإعانة الفقراء والمحتاجين، والثانية "جمعية دفن الموتى" لدفن الفقراء والغرباء دون تمييز».

اهتمامه بالعلم وفتح المدارس يعود بحسب الأب "نصور" إلى: «نزعة داخلية تتوق إلى تحصيل المعرفة عند الشعب السوري كله (صاحب الحضارة العريقة)، وخاصة عند المسيحيين الذين حرموا منها على مدى قرون إبان الحكم المملوكي والسلجوقي والتركي، ولمواجهة الإرساليات الغربية (الكاثوليكية والبروتسانتية) التي وصلت إلى بلادنا قبل الخط الهميوني وبعده، وفتحت المدارس باللغة العربية واهتمت بالعلم بهدف اقتناص مسيحيي الشرق الأرثوذكس وتحويلهم إلى الكاثوليكية أو البروتستانتية».

سعى مطران "اللاذقية" سعياً حثيثاً لتثبيت عروبة كنيسته الأرثوذكسية حيث يكون البطريرك عربياً، وهذا حق مشروع من وجهة نظر الأب "نصور" الذي يقول: «قبل عام 1724 كان البطاركة من "سورية" وناطقين بالعربية، حالهم كحال الأغلبية الساحقة لأبناء الرعية، لكن بعد عام 1724 أصبح العرف المتبع أن يكون البطريرك يونانياً، وكان بعض البطاركة اليونان في نهاية القرن التاسع عشر بعيدين كل البعد عن بيئة البلد، ولم يتفهموا خصوصيته وفرادته وعقلية ونفسية أبنائه، ولم يبدوا خطوات جدّية في النهضة المرجوة، هذا الأمر حفز مطران "اللاذقية" آنذاك (ملاتيوس الدوماني) وغيره من المطارنة السوريين للعمل على عودة البطريرك سورياً ناطقاً بالعربية، وعلى هذا الأساس قاد "الدوماني" ما يشبه الثورة داخل المجمع الأنطاكي المقدس الذي انتخبه في العام 1899 بطريركاً على أنطاكية العظمى وسائر المشرق باسم ملاتيوس الثاني؛ فكان البطريرك العربي الأول منذ زمن طويل».

توفّي صاحب الغبطة في 26 كانون الثاني من عام 1906، وقد عُرف عنه سياسته الرعائية الناجحة من خلال كل المناصب التي تبوأها إذ عمل على رعاية شعبه بإخلاص حاثاً على نبذ التفرقة وبث روح المحبة بين أبناء الوطن الواحد، رافعاً راية الإيمان بيد وراية العلم والتقدم باليد الأخرى.

ويقول الأب "اسبيريدون فياض" في حديثه لمدونة وطن "eSyria" عن السياسة الرعائية للبطرك الراحل: «خلال مسيرته حافظ على الوصايا الإلهية وقوانين الكنيسة المقدسة كما ورد في القانون التاسع عشر، وكان له العديد من الرسائل التي يشدد بها على عدم مخالفة الكنيسة وخاصة فيما يتعلق بالزواج أو الخطبة، ولم يكن يوصي فقط وإنما كان يسهر على تطبيق القوانين، وإذا خالفها أحد أبنائه من الشعب أو الكهنة كان يتخذ الموقف الضروري في مثل هذه الحالات».

ويضيف: «كما عمل على التصدي لهجمات الغربيين وفضح أساليبهم، من خلال تقوية الأبناء بالإيمان وحفظ الوصايا الإلهية، وهو يوصي بسحب الأبناء من المدارس الغربية ويرى أن فيها الخطر الأكبر، وسماها الذئاب الخاطفة».

ارتباط الأب "ملاتيوس" بالموقع الديني لم يبعده عن الموقع الوطني حيث إنه لطالما طالب بالإخلاص للدولة وعدم خيانة الوطن، وهو يقول في إحدى رسائله: «حافظوا على الأمانة نحو الدولة والوطن، لا تمسوا ثوب الخيانة إنه دنس، بل لا تنظروا إليه لأنه قذر».

لقد وقف ضد السكر والقمار وله رسالة بهذا الشأن يقول فيها مخاطباً من يفعلون الخطيئة: «أسفاً عليكم يا أيها الشبان أن تضيعوا زمان الشبوبية في المعاشرات الرديئة وفي السعي وراء الأباطيل والهذيانات الكاذبة نهاراً وليلاً فإلى متى أنتم متغافلون؟ وحتى متى لا تنتبهون لذواتكم؟».

لقد عرف صاحب الغبطة الراحل أنه ليس عليه تحذير الرعية من خطر الرذائل فقط بل عليه أيضاً أن يشجعهم على اقتناء الفضائل من محبة ومسامحة ومغفرة وطهارة، حيث لا تخلو رسائله من ذكر للمحبة وأهمية العيش بمحبة، ويقول في إحدى رسائله: «رأس الفضائل المحبة فاقتنوا محبة بعضكم بعضاً ليس بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق».

ولم يقتصر اهتمامه بالرعية على الأمور الروحية فقط بل تعداها أيضاً للاهتمام بالأمور الاجتماعية والحالة الاقتصادية لذلك نراه يوجه التوصيات في مختلف شؤون أبنائه لما فيه خير لهم، حيث يقول الأب "فياض": «خلال عمله الروحي شدد البطريرك الراحل على العطاء والسخاء والمساعدة لكل محتاج أو مسكين أو فقير، وكان يبادر بنفسه لمساعدة الناس حتى إنه عندما تعرض أحد أبناء قرية "أنكزيك" للإفلاس أخذ المبادرة بنفسه لمساعدته وأعطاه رسالة لأهل الخير لمساعدة المنكوب، ونفس الشيء فعله مع شخص من "حلب" قصده وقد كان شخصاً كفيف البصر وله خمسة أولاد قاصرين وهم بأمس الحاجة إلى من يعينهم».

وأضاف: «ولم يكتف بمساعدة الفقراء مادياً وإنما حرص على مساعدة أبنائهم تعليمياً حيث أقام المداس لهم دون مقابل».

وفي رسالة شهيرة له بهذا الخصوص يقول: «إن المدرسة تقبل الفقراء مجاناً وتجعل على ذوي الدفع والاقتدار رواتب طفيفة لا تحسب شيئاً بالنسبة إلى حسن انتظام التعليم ولبقية رواتب المدارس الغربية، ولم يعد لأحد منكم أدنى عذر إذ إن أولاد الفقراء جميعهم يتعلمون مجاناً لا يطلب منهم شيء ومن غيرهم كل واحد حسب ظروفه وأحواله».

جدير بالذكر أن صاحب الغبطة التي توفاه الله في العام 1906 كان محط تقدير وإعجاب من عرفوه مذ كان مطراناً؛ حيث منحه السلطان العثماني الوسام المجيدي عام 1869، وفي نفس العام منحه ملك اليونان وسام المخلّص الذهبي.

* المراجع:

(الرسائل الرعوية لبطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس الراحل "ملاتيوس الدوماني").