اتصف شعرها بانتمائه المبكر إلى الإنسان وآلامه وآماله، لذلك استطاعت أن تحتل موقعها بين رواد الحداثة الشعرية العربية المعاصرة.

اختلفت الشاعرة الراحلة "عزيزة عمر هارون" عن بنات جيلها كثيراً، فقد تابعت دراستها وحدها، وقرأت كل ما احتوته مكتبة الأسرة خاصةً كتب التراث وأكثرهُ من الشعر القديم والحديث الذي ولعت فيه باكراً.

سبق نشر هذه القصيدة عدة قصائد كتبتها باللغة المحكية، وانتشرت في "اللاذقية" أثناء الانتداب الفرنسي حيث كانت تندد بالانتداب، فحفظها الناس وردودها في المظاهرات ضد الحكم الفرنسي

الآنسة "رنا هارون" ابنة أخ الراحلة تحدثت عنها لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 5 كانون الثاني 2014، فقالت: «ولدت الراحلة في حي "القلعة" في "اللاذقية" عام 1923، لأب من عائلة "هارون" المعروفة هنا؛ فبعض أبنائها لعب دوراً هاماً في تاريخ المدينة، أمثال الراحل "منح هارون"، ووالدتها من آل موسى من "بانياس"، وقد درست الابتدائية في مدرسة الراهبات، ولم تكمل تعليمها بسبب زواجها المبكر في الرابعة عشرة من عمرها بابن عمها، وكان يكبرها بعشرين عاماً، فتلقت علومها في اللغة والقرآن الكريم على يد الشيخ "سعيد مطرجي" داخل منزلها. وقد بدأت ملامح نبوغها الشعري مبكراً؛ فنشرت أول قصيدة وهي في الثالثة والعشرين من عمرها، في مجلة "القيثارة" اللاذقانية عام 1946، بعنوان "خمرة الفن"، تحت اسم مستعار لرجل لا امرأة».

غلاف ديوان عزيزة هارون

وتابعت: «سبق نشر هذه القصيدة عدة قصائد كتبتها باللغة المحكية، وانتشرت في "اللاذقية" أثناء الانتداب الفرنسي حيث كانت تندد بالانتداب، فحفظها الناس وردودها في المظاهرات ضد الحكم الفرنسي».

في بواكير شعرها مالت إلى القصائد التقليدية الموزونة، إلا أن ذلك لم يمنع قصائدها من أن تحمل روح الحداثة شكلاً ومضموناً، كما يؤكد ذلك الباحث "عبد القادر الأرناؤوط" في كتابه " الإنسان والوطن في شعر عزيزة هارون"، وقد خرجت الشاعرة مبكراً من عباءة الخليل إلى رحابة قصيدة التفعيلة؛ فشكلت تجاربها الشعرية إحدى علامات التأسيس للحداثة العربية مع جيل الرواد المؤسسين، أمثال: "فدوى طوقان"، و"نازك الملائكة"، لتترك بصمتها الخاصة في عالم الشعر العربي.

خلال استقبالها من قبل وزير الإعلام السوري

من بواكير شعرها:

صورة نادرة لها مع صديقة

"أهيمُ لحبي وافتحُ قلبي لكل الوجود

فأبصر دربي

وكيف أعيشُ بنور الشعاع وشمسي بين الضلوع". (ص135 من ديوانها)

إصرارها على كتابة الشعر ونشره وتمسكها بموهبتها أديا إلى طلاقها المبكر، فمضت في مشروعها الشعري وتابعت نشر قصائدها الوجدانية بنفس الاسم المستعار، وهذه المرة في صحف العاصمة "دمشق"، وقد لفتت هذه القصائد عالية المستوى الوجداني شاعراً حمصياً سورياً هو "نذير الحسامي" إليها، فقدم من "دمشق" إلى "اللاذقية" باحثاً عن هذا "الشاعر" ولعله شعر أن وراء هذه الروح "أنثى"؛ كما اعترف هو في حديث له بهذا الأمر، ولم يغادر "الحسامي" اللاذقية إلا ومعه "الشاعرة الياسمينة" زوجةً له، كما لقبها بذلك الأديب السوري الكبير "عبد السلام العجيلي" بعد أن استمع إلى شعرها في عدة مناسبات شعرية.

لم تصدر الشاعرة ديواناً واحداً في حياتها، ولعل هذا ما أثر سلباً في حضورها في الذاكرة الشعرية السورية، رغم أنها شاركت في مهرجانات أدبية عديدة في "سورية"، منها: مهرجان "بلودان" للأدباء العرب عام 1956، ونشرت قصائدها في عدة صحف ومجلات عربية منها مجلة "أصداء" وفي مجلات: "الصباح"، و"المعرفة"، و"الثقافة"، و"الأديب" السورية، و"الآداب" اللبنانية، وغيرها.

طارت شهرة الشاعرة بعد أن تسلمت مكتبة الإذاعة في التلفزيون السوري، وقد وفّر لها هذا الأمر وقتاً كافياً للقراءة وإلقاء الشعر في برنامج "شاعر ينشد" الذي كانت تقدمه إذاعة "دمشق"، وأقبلت عليها النوادي الأدبية تستضيفها في أمسياتها، كمنتدى "سكينة"، و"الندوة الثقافية النسائية" التي احتضنتها، وفتحت لها الأبواب لتلقي قصائدها.

وفي لقاء مع مجلة "الصياد" اللبنانية أجراه "نجيب رويحة" بتاريخ 22 كانون الثاني 1959، كتب قائلاً: "قلت للشاعرة خضراء العينين: عندما سمعك د. "طه حسين" في مؤتمر الأدباء العرب في "بلودان"، قال: إنك متأثرة بالأدب الغربي، فهل لرأيه مكان في حياتك الأدبية؟ وأجابت "عزيزة هارون" برفق ووداعة: "كرم الله أستاذ جيلي، وأمد في عمره، ولكنني لا أجيد أية لغة ٍغربيةٍ، ولم أقرأ سوى القليل من الأدب المترجم، ولا غرابة إن كان شعري يشبه الشعر الفرنسي أو سواه، لأن المعين الذي يستقي منه شعراء العالم واحد: "القلب والوجدان".

ثنائية القلب والوجدان التي تميز بها شعرها جعلتها من شعراء المنابر المميزين، فقد كتبت صحيفة "نداء البلاد" في عددها رقم 237، في اليوم التالي للقائها مع مجلة "الصياد" تحت عنوان "تمرد وعصيان في النادي الموسيقي بسبب أمسية لعزيزة هارون"، التالي: "تمرد المستمعون لعزيزة هارون في النادي الموسيقي عند الخروج ساعة توقفت الشاعرة الكبيرة عن الإلقاء، وأرادت إنهاء أمسيتها، تمردوا على اللباقة واللياقة، ومكثوا يبغون المزيد من شعر الوجدان والعاطفة، من شاعرة السحر والجمال. وكيف يستطيعون الخروج وقد أسكرتهم الشاعرة عزيزة بخمرة أشعارها، وعذوبة أقوالها، ورقة ألحانها، والنادي الموسيقي غصت شبابيكه وأبوابه بالمتزاحمين لسماع البلبل الشاعري، وحارت عزيزة ماذا تفعل، فقد استجابت لنداءاتهم مراراً ولكنهم نهمون لا يشبعون، فهذا يطلب المزيد حتى الصباح، وذلك يتطوع لجلب الدفتر الثاني من بيت الشاعرة لتروي لهم، ما استجد فيه من شعر".

عدم قدرتها على الإنجاب أدت إلى طلاقها الثاني من الشاعر "الحسامي" لتتزوج للمرة الثالثة من السياسي "قدري المفتي"، وتتطلق منه بعد فترة أيضاً، وقد سبب لها الإخفاق المتكرر في زواجها وعدم قدرتها على الإنجاب آلاماً نفسية قاسية تجلت في كثير من قصائدها، مثل: "بائعة الزهور"، و"الأم"، و"نداء الأمومة"، وقد أهدت القصيدة الأخيرة إلى طفلة محرومة من الحنان نادتها "ماما" في أحد المواقف، فترك هذا النداء في روحها أقوى الأثر فقالت:

"يا فتاتي

أنا أمٌّ

رددي هذا النداء

أنت فيه

نغماتٌ ورواء". (ص116 من ديوانها)

يرى الأديب "العجيلي" في حديث عنها إلى مجلة "هنا دمشق": «أن هذه الآلام ومنها آلام الأمومة المحرومة تصعدت في قصائدها إلى عناصر خلق وإبداع، فكتبت قصائدها لتتفجر بالحب والحنان والحياة لا لتندب حظها بكاءً وحسرةً، بل لتشرق فيها بروحها الآسرة المُحبة».

توفيت الشاعرة في 12 شباط 1986، في مشفى "الشامي" بدمشق، وشيعت إلى "اللاذقية" حيث ووريت الثرى فيها، وبعد رحيلها قامت الندوة الثقافية النسائية في "دمشق" بطبع ديوانها عام 1992، وأعدته للنشر الشاعرة "عفيفة الحصني" بالتعاون مع الأديبة "ألفة الإدلبي"، والأديبين "يوسف عبد الأحد"، و"عبد اللطيف أرناؤوط".

وقد جاء في تقديم الأديب "عبد اللطيف أرناؤوط": «هي واحدة من أبرز أصواتنا النسائية التي دافعت عن إنسانية المرأة (وهي ضحية من ضحايا العادات والتقاليد في مجتمعنا الشرقي)، وهي رائدة من رائدات الدعوة إلى تحرير المرأة، تلك الدعوى التي رسمت أولى خطواتها "ملك حفني ناصف، وهدى شعراوي، ومي زيادة"».

المصادر:

1- عيسى فتوح، أديبات عربيات، الندوة الثقافية النسائية، دمشق 1994.

2- ديوان الشاعرة، منشورات الندوة الثقافية النسائية، 1992.

3- الموسوعة العربية، مادة "عزيزة هارون"، ص 299، المجلد 21، دمشق، 1996.

وجب الشكر للباحث "سجيع قرقماز" على معلوماته القيمة، وإشارته إلى ما كتبته الصحف اللاذقانية عن الراحلة في الخمسينيات.

وللسيدة "دنيا عجان المصري" من باريس، لتيسيرها التواصل مع "آل هارون"، وللآنسة "لينا هارون"، لتأمينها الصور التي تنشر للمرة الأولى من أرشيف العائلة.