هبّت رياح الفن التي نمت بداخله منذ الصغر، فحملته بذرة صغيرة ونقلته من مكان إلى آخر ليشبع رغبته، ويروي عطشه، ويطور موهبته بفن النحت على الخشب، فاختاره عمله الأساسي بالحياة مستنيراً بنور حضارتنا وتاريخ الأجداد؛ لتدخل أعماله الفنية بأثاث المنازل كلوحات تضج بالحياة.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت مع النحات "أحمد بله" بتاريخ 18 كانون الثاني 2018، وعن بداياته الفنية قال: «عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية، كنت أستمتع بحصة التاريخ، وتجتاحني رغبة كبيرة للاطلاع على حضارة بلدي، ولا يمكن أن أصف متعتي وأنا أقلب الصفحات وأمعن النظر بالشخصيات التاريخية والآثار القديمة، حتى استفزتني تلك المتعة لأمسك قلم الرصاص، وأبدأ رسم تلك الشخصيات، وكأنني أنتمي إلى ذاك الزمن. كنت أطلب من والدتي أن نمر بجانب حديقة "المتحف الوطني" لرؤية التماثيل المنحوتة، التي كانت تعود إلى شخصيات تاريخية قديمة.

للطبيعة دور كبير في عملية الخلق والتجدد بالنسبة لي، فهي ملهمتي ومنبت أفكاري، وسماعي طرق حبات المطر وأنا في مشغلي، ينعشني ويحفزني لعمل فني جديد. تشربت المهنة التي أصبحت جزءاً أساسياً من عملي اليومي بعمر الشباب، فامتلأ قلبي بفرحٍ ساهم بنجاحي على الصعيدين المهني والنفسي، وما أجمل أن تمارس عملاً أنت شغوف به من الصغر!

في البدايات، كنت كإسفنجة تمتص كل ما يشبع رغبتي الفنية، ويطور موهبتي ويرضي مشاعري التي كانت تقفز من مكانها لسماعي قصص وتاريخ الأجداد، فتسكنهم وتتقمص شخصياتهم».

منحوتة فنية

وتابع سرد رحلته مع الفن: «بعمر 14 عاماً، حملتني نفس الرياح للتردد إلى الفعاليات الثقافية والفنية، التي كانت تقام بوجه دوري في العطلة الصيفية، مثل مهرجان "المحبة والسلام"، الذي يعد تظاهرة فنية ثقافية بحد ذاته، ويستقطب الفنانين المبدعين بمختلف أنواع الفنون، ولمدة أسبوع كامل؛ وهو ما يسمح لنا بمراقبتهم والاستمتاع برؤية أعمالهم، وصادف أن لفتُّ انتباه نحاتٍ معروف، فقال لي: "وجهك يرقص طرباً، وعيناك تشعان رغبة، فاسعَ نحو حلمك بعمر صغير، لتتشرب رئتاك الفن النظيف". بدأت بعدها رحلة البحث عن نحات ليعلمني فن النحت على الحجر، وبالمصادفة أعجبت بأعمال نحات على الخشب، ويعمل بمجال الديكور والأثاث المنزلي، ولازمته معظم الوقت وخاصة في أيام العطل الأسبوعية والطويلة، ولم أكن أنتظر منه أن يعلمني، إنما كنت أراقب كل حركة من حركاته، وخاصة يداه وعيناه، ولم أكن أفوت فرصة للتدريب إلا وكنت أستغلها. رسمت الزخارف النباتية وأشكال الحيوانات وغيرها على قطع الكرتون، ثم حفرتها على الخشب، وكانت تنقصني الجرأة في البداية لإظهار أعمالي أمام الآخرين، فاحتفظت بها ليقيني بأن عملي القادم سيكون أجمل.

سجلت في معهد للفنون، لاكتساب أفكار وخبرات جديدة، والاطلاع على تجارب الفنانين، وكنت ميالاً إلى الرسم الزخرفي ذي الطابع التاريخي والديني، وواظبت على قراءة التاريخ، فمعظم رسوماتنا مستمدة من حضارتنا. والحفر على الخشب من أقدم الفنون التي عرفها التاريخ، ثم تطور عبر الزمن ليتحول لصناعة بحد ذاتها، إذ يقوم الحرفي بتفريغ الخشب على شكل لوحات زخرفية جميلة تضج بالحياة، فتدخل منازلنا من دون استئذان، وتمثل رسوماً لنباتات أو حيوانات، أو آيات أو أمثالاً شعبية».

من أعماله

وأضاف: «للطبيعة دور كبير في عملية الخلق والتجدد بالنسبة لي، فهي ملهمتي ومنبت أفكاري، وسماعي طرق حبات المطر وأنا في مشغلي، ينعشني ويحفزني لعمل فني جديد.

تشربت المهنة التي أصبحت جزءاً أساسياً من عملي اليومي بعمر الشباب، فامتلأ قلبي بفرحٍ ساهم بنجاحي على الصعيدين المهني والنفسي، وما أجمل أن تمارس عملاً أنت شغوف به من الصغر!»

قطع أثاث منزلي محفورة بطريقة تزيينية

فن النحت على الخشب يتطلب عدة مهارات مجتمعة معاً، يوجزها "بله" بالقول: «الموهبة تولد معك ثم تصقل، وامتلاكي لموهبة الرسم والنحت ليس كافياً لأحمل لقب فنان، لا بد أن يصحب الفنان خيال واسع وفكر نقي وثبات باليد، ليوازن بين عمل العقل والعين واليد، ويتفوق الفنان على ذاته، ويخرج من قوقعة الرسومات الزخرفية التقليدية، ويبتكر رسومات وزخارف من وحي إبداعه وخياله وموهبته. وللتعامل مع الخشب يجب امتلاك عاطفة تجاهه، فهو روحاً حية وطيعة، وبمحبة يتبادل الحياة مع الكائنات الحية التي تقصدها خوفاً أو رغبة باللجوء إليها».

ولدى سؤالنا عن رأيه بالفن، أجابنا: «يحيينا الفن ويروي عطشنا؛ أدخل إلى معبدي وأمارس هوايتي بنحت الوجوه التاريخية والمجسمات واللوحات الجدارية القديمة، وأشبع عطشي. نحن شعب نزهر ونبدع، ولا أفضّل إدخال الألوان إلى أعمالي، إنما أستخدم بعض أنواع الزيوت الخاصة بالخشب للتعتيق، ومعروف أن أعمالي لا تتشابه؛ لأنني أشعر بالعمل الفني، وضربات الإزميل على الخشب، وأتخيل الشكل الفني، فأكتشف أشياء جديدة تميز أعمالي عن أي أعمال أخرى، وأحياناً كثيرة تدلني عروق الخشب المتشعبة الجميلة أين سأضع إزميلي. أصعب شيء على الفنان أن يتحدث عن عمله؛ لهذا يترك أعماله تتحدث عنه، والفن رسالة محبة وحب، وإن استطعت أن ترسم الابتسامة، تكون حفرت بأذهان الناس».

وعن مسيرته الفنية، قال: «عمري 37 عاماً، وقد علّمتُ هذا الفن لمن يرغب، نحن استنرنا وبنينا فوق تاريخنا وأصالتنا، وسيأتي بعدنا من يكمل المسير، والفنان الذي لا ينطلق من خلفية ثقافية وفنية لا يستطيع أن يتلمس طريقه الصحيح. تحولت قطع الأثاث المنزلية إلى منحوتات فنية تزين البيوت، وأبدعت بنحت القطع الصغيرة التي تتطلب دقة في الحفر، والتي كان لها رواج كبير بمدينة "اللاذقية"، وتقدم كهدايا بالمناسبات الخاصة والعامة، وأدخلت إليها بمساعدة صديقي "جورج نعمة" بعض أنواع الزهور الاصطناعية؛ وهو ما أعطاها رونقاً وحداثة، وكنت أتذوق طعم السعادة وأنا أرى منتجاتي تحقق صدى إيجابياً بين الناس، حتى إننا عُرفنا بهذا النوع من الأعمال».

الفنانة التشكيلية "مفيدة الديوب" مديرة متحف الفن الحديث "دمر"، تحدثت عن الفنان النحات "بله" بالقول: «التقيته قبل خمس سنوات أثناء مشاركتنا بمعرض فني منوع يضم مختلف أنواع الفنون، وأعجبت بمنحوتاته التي كانت تنم عن ذوق فني وحسّ عالٍ؛ إذ يجسد الفن بحرفية ودقة وإتقان، وبمعظم حالاته، وخاصة الإنسانية والتاريخية، فهو عاشق للتاريخ وحضارة بلده. تميزت أعماله بالاختلاف والغرابة؛ فهي لا تتشابه مع أي عمل فني آخر، ظهرت موهبته وبراعته بمجال الديكور والأثاث المنزلي، حيث مزج بين الحديث والقديم، وأعماله منحوتات تشكيلية تضج بالحياة، ومن يشاهدها يظن أنها مطرزة لدقتها، ومشغولة بتقنيات مختلفة، ومن دون إضافات لونية، فهو قادر على إظهار مفاتن العمل الفني، لأنه تشرب الفن قبل الصنعة».

يذكر أن الفنان "أحمد بله" من مواليد "اللاذقية" عام 1981، وله مشاركات بعدد من المعارض داخل وخارج مدينة "اللاذقية"، إضافة إلى اشتراكه بعدد من المهرجانات للتعريف بفنه.