تترافق كلمتا "يا ليل" و"يا عين" في كثير من الأغاني العربية إلى درجة التوأمة، ويستمتع المطربون كما "السميعة" بهذه اللازمة كثيراً، ففيها ما يسعد القلب والروح، ولذلك قصص تروى في تاريخها.

ليس أسهل من لفظ "يا ليل"، ومع ذلك فقد أثارت هذه الكلمة اهتماماً كبيراً في المود اللحني العربي، يقول الملحن "زياد ملّيس" من "حلب" محدثاً مدونة وطن “eSyria”، بتاريخ 4 تشرين الثاني 2014: «حاول الكثيرون تفسير هذه اللازمة كل بما يريد، إلا أن الواضح أنها نابعة من الليل والعين بالمعنى الحرفي، فالليل ليل العشاق والفراق والحزن والفرح أيضاً، والعين هي التي لم تعد ترى المحبوب في ظلمة ذاك الليل، كذلك من الواضح أنها عربية تدل على عدة معان، منها رفع الصوت، والظلمة الشديدة، والخمر، وغيرها، وتعدد معانيها هذا يعني أنها عربية، ويدل على أنها أصلية وليست دخيلة».

إن السبب الذي دعا للتغني بـ(يا ليل) هو نفسه في (يا عين)، فهو نداء مستساغ في الأذن أيضاً، على أنه لا يرد النداء بـ(يا عين) أولاً أبداً نظراً لثقلها اللحني، ولكن يتساوى النداءان في الاصطلاح الموسيقي، مع ملاحظة أنه يمكن التغني بـ(يا ليل) وحدها دون شريكتها في حين لا يمكن العكس

قيل إن كلمة "يا ليل" من السريانية أو الآرامية (للْيا)، وقيل إنها آشورية بابلية (ألّلو)، وبعض المستشرقين أرادوها عبرية من (هللويا)، إلا أن للباحث "فراس السواح" في كتابه "لغز عشتار" وجهة نظر تبدو الأكثر دقةً، يقول: "إن أهل المشرق العربي عرفوا الموسيقا وأدواتها واستخدموها في احتفالاتهم، خاصة الدورية الكبرى كبدء الفصول وعيد رأس السنة (أول نيسان)، وكانوا يعيدون تمثيل أسطورة الإله المقتول (دموزي، بعل، إنليل.. إلخ)، وتقوم النساء بالولولة عليه، فيقلن (ياويلي، وياويلتي)، ومنه كما يتضح اشتق اسم شهر أيلول، وهو شهر موت الإله وفق الأسطورة المشرقية، والكلمة قريبة من (يا ليل) بحكم الإبدال بين العربية والآرامية وغيرها من لغات المشرق".

غلاف كتاب الليل والعين

يقول الموسيقي الراحل "محمود عجان" في كتابه "الليل والعين في تراثنا الموسيقي والشعري" (وزارة الثقافة السورية، 2006)، وفي تفسير سرعة انتشار الغناء باللفظتين لـ"سهولة نطقهما على اللسان، وانتشاء المستمعين بهما في الذهن والأنفس معاً، كما أن مفهومه الضمني يتجاوز مدلوله الحقيقي، وكأن الغاية منه معنوية خيالية فهو مناجاة لعالم الأحلام ولتداعي الخواطر أيضاً".

والغناء بلفظ "يا ليل" يكون عادة دون إيقاع أو ميزان موسيقي فهو إنشاء حر من هذه الناحية، ويسمى "تقسيم الليالي" لأنه يتشابه مع التقاسيم الارتجالية التي تصدر عن العازف على آلة موسيقية منفردة، يشير الموسيقي "زياد ملّيس"، ويضيف قائلاً: «إن السبب الذي دعا للتغني بـ(يا ليل) هو نفسه في (يا عين)، فهو نداء مستساغ في الأذن أيضاً، على أنه لا يرد النداء بـ(يا عين) أولاً أبداً نظراً لثقلها اللحني، ولكن يتساوى النداءان في الاصطلاح الموسيقي، مع ملاحظة أنه يمكن التغني بـ(يا ليل) وحدها دون شريكتها في حين لا يمكن العكس».

من الصعب الجزم بالتاريخ الحقيقي لبدء استخدام هذه الكلمات في الغناء الحديث، فقد وجدت أشكالها في كثير من الغناء الشعبي العربي خاصة في "سورية ومصر" على امتداد التوثيق المتاح للبلدين، ويرجح الراحل "محمود عجان" أن تكون قصيدة الشاعر "علي القيرواني الحصري" (1029-1095م) التي مطلعها (يا ليل الصب متى غده)، قد أوحت للمغنين والملحنين بجمالية هذه المطالع، فانتشرت حتى سار الأمر وانتشر بين الناس، مع ملاحظة أن قصيدة "القيرواني" غناها مجموعة كبيرة من المغنين، كما عارضها كثيرون من الشعراء حتى أصبحت مثلاً سائراً، وكان آخر من لحنها في العهود الأخيرة الأخوان "رحباني"، وغنتها السيدة "فيروز" في أندلسياتها المميزة.

يكاد لا يوجد مغنٍ لم يبدأ إحدى وصلاته بهذه اللازمة الغنائية، وينفرد في مد هذه اللازمة إلى أكثر من ربع ساعة الفنان السوري الكبير "صباح فخري"، ومن الفنانين المعاصرين البارعين في هذه اللازمة ويتقنون توظيفها في الغناء، خاصة الجماهيري، الفنان السوري الحلبي أيضاً "شادي جميل"، كذلك لا يمكن تجاهل الراحل "وديع الصافي" وصنوه "نصري شمس الدين"، وفي الغناء الحديث تكاد تختفي هذه اللازمة إلا من قليل من الفنانين القادرين على أدائها أداء صحيحاً وممتعاً.

يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن فن الموسيقا والغناء أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه"، ولعل غياب هذه اللازمة التراثية اعتراف بما قاله "ابن خلدون".